تجمع الزملاء فى تلك القاعة المشمسة فى هذه المدينة الأوروبية والربيع يقترب ثم يعاود الهروب للتذكير بأيامها الشتوية الطويلة، فجأة تقذف السماء بكثير من القطن الأبيض بحبات تتحول إلى ماء مع ملامستها الأرض. مشهد جميل خاصة وأنه خلف زجاج نوافذ تلك القاعة المكتظة بوجوه ترسم ملامح الجدية فى حديثها لموضوع لا يمكن التعبير عنه فقط بتعابير التجهم والزعل اللذين يتلاشيان مع نهاية الاجتماع أو الخروج من القاعة لغرض ما!
•••
يحتد النقاش ويتسابق المجتمعون خاصة منهم محدثى الوظيفة – هم فى ذلك مطابقون لمحدثى النعمة – فى سرد ما منحهم إياه صديقهم جوجل أو جملة نشرتها تلك الجريدة ذائعة الصيت القادمة من مدن تصنع فيها القرارات بشكل يومى وكثير منها مصيرى وليس خاصا بذاك البلد نفسه بل يتعداه إلى أوطان ومدن بعيدة.. وفى مثل هذه الاجتماعات تبذل النساء مجهودا أكبر من زملائهم الذكور ربما لإثبات النفس أو حتى لاختراق نمطية الاعتقاد المنتشر بأن النساء لا يملكن خبرة لا فى الاقتصاد ولا فى السياسة.. تتذكر ذاك المشهد لدنجوان الشاشة العربية فى فيلمه الشهير «عدو المرأة»، حيث يقول رشدى أباظة ما معناه أن النساء لو كن على قدرة لإتقان أى عمل فكان الأجدى أن يصبحن خبيرات فى الطبخ والخياطة وبعد هدوء بسيط فى قاعة ذاك الاستديو بالتلفزيون المصرى، يكمل «إلا أن أشهر الطباخين هم من الرجال وأشهر الخياطين ومصممى الأزياء هم من الرجال أيضا». تتذكر ذاك المشهد وأنت فى هذه القاعة البعيدة جدا فى المكان والزمان والمجتمعين.
•••
تحاول إحداهن أن تقتنص لحظة للحديث بين ذكور حجم الأنا لديهم أكبر من منهاتن والقاهرة مجتمعتين، يلتفت الجميع نحوها مبتعدين عن النظر نحو هواتفهم وكأنها كسرت حدة الأصوات العالية والواثقة «للزملاء من الذكور». وما هى إلا لحظات ليعود الجميع إلى ما كانوا عليه، فهى تعيد تكرار رسم صورة مشابهة لما قاله زملاؤها حول نفس الحرب ونفس المدينة ونفس الدمار أو الخراب والتهجير.. رغم أنهم جميعا يتحدثون وكأنهم قابضون على الحقيقة وحدهم دون غيرهم أو يقومون بوصف ورسم صور للأحداث كما أنهم كانوا شهودا لها أو على مقربة منها.
•••
جاء سؤالها هى ليحدث بعض الحركة فى مياه الاجتماع الراكدة، هى القادمة من جنوب الجنوب ببشرة سمراء وشعر أسود ولكنة إنجليزية لا تشبه تلك للدارسين مثلها فى الولايات المتحدة أو حتى الآخرين الذين اختاروا الدراسة فى جامعات بريطانيا العريقة.. قالت هى بشىء من الثقة المتواضعة «كيف ندرى أن ما تقولونه هو الرواية الوحيدة للمشهد؟»... بعض الهمهمات ونظرات الاستغراب توقظ البعض من «سباتات الاجتماعات المملة».. تكمل هى بالإشارة إلى ما نشر عن صحف ومواقع إعلامية مختلفة فى الخط ولكنها هى الأخرى «محترمة» وليست تستمد قوتها من الحاكم أو الممول أو المعلن أو توابعهم! تقوم بقراءة مقاطع مهمة لوصف ذات الحدث فى ذات اللحظة وهو مختلف تماما عن رواياتهم وما استشهدوا به.. غيمة من الغضب المكبوت تحلق فوق الرءوس وبعض التعليقات غير الواضحة المعنى. ولأن فى الكثير من الأحيان تكون المرأة هى أكثر عداء للمرأة، قامت تلك الزميلة وربما تطوعت لإثبات ولائها لعالمهم ولرواياتهم. وقفت فمثل هذا الحوار بحاجة إلى بعض من البطولات الدنكشوتية، وقالت ولكن زملاء لى صحفيين محترمين ومشهورين هم من يصفون ويروون الحدث وهم لم يأتوا أبدا بما سردتيه أنت الآن.
•••
تحولت أجواء الاجتماع إلى شىء من التشنج؛ أغلبية تعتقد أنها تملك المعرفة والحضارة والتاريخ والحق فى روايتها هى لنفس الحدث الذى هو بروايات مختلفة وعبر عدسات لكاميرات وأعين أيضا منوعة.. إجابتها الجنوبية ذات البشرة الداكنة «لقد استمعت لكم جميعا ولم أوصف ما قلتوه بأى وصف قريب من الكذب فيما تقولين أنت، بل أنتم، أن الحقيقة هى ما نرويه نحن». تتوقف قليلا ربما لإدراكها أنهم بحاجة لاستيعاب الموقف، وتكمل لوصف أحداث من التاريخ الحديث رويت على لسانهم هم وما لبثت وأن تحولت إلى كميات من الأكاذيب والسردية الواحدة التى كتبت قبل أن تسقط القنبلة الأولى أو تدهس الدبابات ساكنى تلك المدن والأحياء.
•••
تحور النقاش ورغم وجود ربما قلة من الحضور المشابهين لتلك التى لم تستطع أن تصمت فى وجه الرواية الواحدة للحدث، وبين الجالسين بعض من من يشاركون تلك الجنوبية فى رأيها أو ربما يملكون الكثير من الأسئلة حول الرواية الرسمية الواحدة التى تعلو فوق كل صوت وكل وجع.. اكتفت هى فى الأخير بأن تقدم النصح لهم جميعا وخاصة للقادمين الجدد لتلك المؤسسة العريقة، فقالت عليكم الاعتراف بأن هناك روايات عدة لنفس الحدث وأن روايتكم أنتم ليست الوحيدة وربما آن الأوان أن تستمعوا للروايات الأخرى وفى معظمها أكثر قربا من الأرض ولا تتحكم فيها أو تلوثها شوائب لون البشرة أو الجغرافيا أو العرق أو التسلط! بل هى كتبت بعرق ودم كثير من الأبرياء العزل فللحدث روايات عدة..