اجتمع المؤتمرون من أربع وأربعين دولة (ومن بينها مصر) فى غابات بريتون وودز فى ولاية نيوهامبشر بالولايات المتحدة الأمريكية فى يوليو من عام 1944 واتخذوا قراراتهم بتدشين نظام عالمى جديد، الغرض منه تحقيق الاستقرار المالى والنقدى فى الأجلين القصير والطويل، ومنع تكرار حدوث أزمات عنيفة مثل التى شهدها العالم فى الكساد الكبير، والمساعدة فى جهود إعادة الإعمار ما بعد الحرب العالمية الثانية، والحيلولة دون الانغلاق التجارى وتبادل العملات فى سياق قاعدة الذهب، التى لم تعد مناسبة لدفع النمو وتجنّب التقلبات بعدما سادت العالم منذ عام 1876. وقد نشأ عن ذلك المؤتمر ما بات يعرف بمؤسستى بريتون وودز وهما صندوق النقد والبنك الدوليين.
ومن المعروف أن نظام التصويت فى صندوق النقد الدولى قائم على اشتراكات الأعضاء، تلك التى تحددها حصص بعينها تحوز الولايات المتحدة النصيب الأكبر منها بنسبة 17.6%. هذا يجعل الصندوق منحازا بطبيعته وتكوينه إلى سياسات وتوجهات الولايات المتحدة الأمريكية، ويؤكد على عبثية المحاولات الإقليمية الأخيرة للخروج من هيمنة الدولار الأمريكى، فى وقت تلعب فيه الدولة المصْدرة لهذا الدولار، دورا مفصليا فى إدارة منظومة الاقتصاد العالمى. وتجدر الإشارة إلى أن أهداف صندوق النقد المعلنة تتضمّن:
1. تشجيع التعاون الدولى فى مجال النقد، بواسطة هيئة دائمة تهيئ سبل التشاور والتعاون فيما يتعلق بالمشكلات النقدية الدولية.
2. تيسير التوسع والنمو المتوازن فى التجارة الدولية، وبالتالى الإسهام فى تحقيق مستويات مرتفعة من تشغيل العمالة والدخل الحقيقى والمحافظة عليها، وفى تنمية الموارد الإنتاجية لجميع الدول الأعضاء، على أن يكون ذلك من الأهداف الأساسية لسياستها الاقتصادية.
3. العمل على تحقيق الاستقرار فى أسعار الصرف والمحافظة على ترتيبات صرف منتظمة بين البلدان الأعضاء، وتجنب التخفيض التنافسى فى قيم العملات.
4. المساعدة على إقامة نظام مدفوعات متعدد الأطراف فيما يتعلق بالمعاملات الجارية بين البلدان الأعضاء، وعلى إلغاء القيود المفروضة على عمليات الصرف التى تعيق نمو التجارة العالمية.
5. تدعيم الثقة لدى الدول الأعضاء، متيحا لها استخدام موارده العامة بصفة مؤقتة وبضمانات كافية، كى تتمكن من تصحيح الاختلالات فى موازين مدفوعاتها، «دون اللجوء إلى إجراءات تضر بالرخاء الوطنى أو الدولى».
ومن الأهداف السابقة يتضح أن الصندوق يمثّل ما يشبه وزارة اقتصاد العالم، وهو الطبيب الذى ترجى استشارته لعلاج الأمراض الاقتصادية المرتبطة بالعجز والاختلال فى موازين المدفوعات بصفة خاصة. ذلك الطبيب المتمرّس، والذى تتحكم فى جانب كبير من موارده دولة واحدة، يفرض على الدول المريضة وصفة طبية «روشتة» نمطية تستهدف التخلص من الخلل فى أسرع وقت ممكن، من أجل ضمان تدفق رءوس الأموال وحركة التجارة فى العالم بدون تعقيدات. وفى سبيل تحقيق ذلك يتعين على الدول سداد «الفيزيتا» أو تكلفة زيارة الطبيب وثمن الأدوية الواردة فى الوصفة الطبية، من اشتراكاتها فى الصندوق وبحد أقصى نسبة من مضاعفات ذلك الاشتراك، وبتكلفة اقتراض تزيد مع زيادة تلك المضاعفات. غير أن ثمن الزيارة هنا لا يدخل جيب الطبيب بشكل مباشر، لكنه يرتد فى أكثر من صورة إلى أصحاب الاشتراكات الكبرى فى موارد الصندوق، وفى مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية حكومة ومؤسسات ومستثمرين أفراد. فالدول المرضى التى تعانى عجزا مزمنا فى موازينها الخارجية، حينما تقدم على تخفيض عملاتها الوطنية مقابل الدولار الأمريكى، وترفع من أسعار الفوائد على ديونها من أذون خزانة وسندات وقروض، وتبيع حصص ملكيتها فى الاستثمارات العامة (بعد تخفيض عملاتها) بأسعار منخفضة نسبيا، بعد تقويم تلك الحصص بالدولار الأمريكى بالطبع... تحقق للمستثمر الأجنبى وللدول ذات الفائض المستدام فى موازين التجارة وللدول والمؤسسات الدائنة، الكثير من المكاسب الفورية!
• • •
الطبيب إذن لا يصف بالضرورة الدواء المناسب للمريض، بقدر ما يصف الدواء المناسب لما تعتقده الدول الكبرى يصب فى مصلحة الاقتصاد العالمى وحركة التجارة وتدفقات رءوس الأموال. بالتأكيد قد تلتقى وتتقاطع المصالح الوطنية لدول العجز، مع مصالح دول الفائض والثروة المتراكمة، لكن ليس ثمة ضمانة على استمرار هذا التقاطع لوقت طويل، وذلك لعدة أسباب نتعرّض فيما يلى لجانب يسير منها.
النموذج الذى تتبناه دول الشمال والغرب المتقدم لحفز النمو وتراكم الثروات وتحقيق الرفاهية لسكانها، يقوم على دعامات تتصادم هيكليا مع نموذج التنمية الذى ارتضته دول الجنوب الأفقر نسبيا، فيما يمكن وصفه بالمعادلة ذات المحصلة الصفرية zero sum game. حتى لو اجتهدت نظرية الألعاب الشهيرة، والتى تنتمى إلى فكر مدرسة الاقتصاد السلوكى، لتقديم نماذج متوازنة فى التبادل التجارى، فإنها تظل عاجزة عن تبرير التفاوت المستمر والمستدام فى تراكم الثروات بين مجموعتى الدول آنفة الذكر.
فالدول المتقدّمة التى تمتلك فوائض مالية وتتحكم فى التقدم التكنولوجى والتراكم المعرفى، تريد أن تحقق أكبر عائد ممكن على منتجاتها وأموالها. ومن أجل تحقيق ذلك، فإنها تسعى إلى السيطرة على مختلف البورصات السلعية وحركة التجارة والشحن ومؤسسات التمويل، لضمان تسعير منتجاتها ذات القيمة المعرفية المضافة بفارق كبير عن أسعار المنتجات الأولية الزراعية والنفطية والمعدنية... التى لا تمتلك فيها ميزة نسبية مقارنة بدول الجنوب النامية. فى هذا السياق يمكن أن نفهم اعتراض الولايات المتحدة على قرارات المنتجين الرئيسيين فى منظمة أوبك + لتخفيض إنتاج النفط، كونه يؤدى إلى ارتفاع سعره. بالطبع تصدّر الدول المتقدمة للعالم مخاوف تمرير التضخم الناشئ عن ارتفاع أسعار النفط إلى الدول الأكثر فقرا، والتى تعانى بالفعل من قسوة الموجات التضخمية بفعل الحرب فى أوكرانيا، واضطراب سلاسل التوريد، وسياسات التشديد النقدى... وهى مخاوف حقيقية، لكنها تخفى وراءها تعارض المصالح بين نموذجى التنمية فى مجموعتى الدول المتقدمة والأقل تقدما، وكيف أن الدول الأكثر فقرا، والتى لا تملك بالكاد أية مزايا نسبية أو تنافسية تذكر، لا فى السلع الأولية ولا فى السلع ذات القيمة المضافة المعرفية، هى التى تدفع الثمن باهظا فى معترك المنافسة بين السياسات الداعمة للنموذجين. وقد لاحظنا جميعا كيف ارتفعت أسعار المنتجات الأولية بشكل كبير فى أعقاب أزمتى الجائحة والحرب فى أوروبا، لكنها سرعان ما تم السيطرة عليها سواء باتفاق الحبوب أو بكثير من السياسات الضاغطة، دون أن يتسبب ذلك فى وقف موجات التضخم العنيفة التى أصابت مختلف دول العالم، متمثلة بشكل كبير فى ارتفاع أسعار السلع الأكثر تعقيدا، ومن بينها منتجات السلاح بالطبع.
كذلك يعزز من الفرضية السابقة، سياسات التشديد النقدى التى قادها الفيدرالى الأمريكى أخيرا، والتى مازالت تؤثر على تكلفة الأموال فى العالم أجمع، وليس من المتوقع أن تعود مجددا إلى مستوياتها الصفرية التى كانت عليها عشية الحرب الأوكرانية ــ الروسية؛ إذ إنها تعطى لدول الفائض الدائنة (سواء بشكل مباشر أو من خلال حصصها الحاكمة فى مؤسسات التمويل ومنها صندوق النقد والبنك الدوليين) أفضلية فى الحصول على مقابل مرتفع لأموالها المقرَضة، على حساب موازنات الدول المدينة التى باتت تستنزف معظمها فى خدمة الديون.
كذلك يعتمد صندوق النقد فى تشخيص أدواء الدول المستعينة به على بيانات وإحصاءات تلك الدول، والتى لا تخلو من التجميل بدافع بث الثقة فى الجهات المقرضة. هذا التجميل يتسبب فى تعرّض اقتصادات هذه الدول لأعراض جانبية عنيفة لوصفات الصندوق، أكبر كثيرا من تلك التى سبق توقعها. من ذلك آلاف الوظائف التى يفقدها المواطنون، واضطراب الأسواق، وزيادة مستويات الفقر المصاحبة لانخفاض الأجور الحقيقية وتسريح العمالة وارتفاع الأسعار. تلك الأعراض الجانبية يمكن أن تلتهم أية وفورات إيجابية لعلاج الصندوق، بل وتساهم فى تعميق الأزمة التى كانت سببا فى اللجوء إليه، بحيث تصبح الدول ذات العجز فى حاجة دائمة إلى الصندوق، ومن ورائه الدول المسيطرة على موارده، من أجل الخروج من أزمات الديون والعجز الدائمة والمتفاقمة بمرور الزمن.
• • •
الأمثلة كثيرة على وصفات قاتلة للطبيب الأممى كان ضحيتها المكسيك والأرجنتين والبرازيل وتركيا ومصر... وهناك أمثلة يراها الصندوق نموذجا للنجاح ومنها تجربة بولندا فى الإصلاح المالى والنقدى، وتجربة الإصلاح الهيكلى فى مصر فى مطلع تسعينيات القرن الماضى... لكن العامل المشترك دائما فى كل تلك التجارب هو سذاجة الوصفة إلى حد التنميط، بغية التماس مع النظرية الاقتصادية فى صورتها الخام، ودون اعتبار يذكر لخصوصية الحالة المرضية التى يعانى منها كل اقتصاد على حدة، فضلا عن درجة التعقيد المجتمعى، والثمن السياسى الذى يمكن أن تدفعه كل دولة نتيجة أضرار تلك الوصفة، خاصة فى الأجل القصير فيما يعرف بأثر منحنى جيه JــCurve effect. بموجب هذا الأثر يؤدى تخفيض قيمة العملة الوطنية إلى أضرار كبيرة تزيد من حدة الأزمة الاقتصادية، وتعزز من العجز الخارجى فى الأجل القصير، علما بأن الخروج من تلك الصدمة الأولى بأضرار يمكن امتصاصها ليس مضمونا، وبالتالى فاكتمال شكل الحرف J قد لا يحدث أبدا، لو أن الضرر الكبير الذى ترتب عن وصفة الصندوق خلق مضاعفات أخرى فى أعضاء حيوية من جسد الاقتصاد القومى.
كاتب ومحلل اقتصادى