ثنائية الوحشية والنعومة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:33 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ثنائية الوحشية والنعومة

نشر فى : السبت 10 مايو 2014 - 7:55 ص | آخر تحديث : السبت 10 مايو 2014 - 7:55 ص

أَعدَمَ زعيم كوريا الشمالية «كيم يونج أون» زوج عمته فى ديسمبر الماضى ثم ذهب يقدم لها واجب العزاء. نقلت وكالات الأنباء صورته وهو يمد يده مصافحا المرأة التى صارت بفضله أرملة، مُعرِبا عن تعاطفه مع مصابها الأليم، وخلال جلسة برلمانية أُعيد فيها انتخابه رئيسا للجنة الدفاع الوطنى، راح النواب والمشاركون يصفقون ويهتفون بحياة الزعيم، الذى قالت عنه وسائل الإعلام الرسمية أنه واثق من نفسه، ولا يحدوه أى قلق بشأن حكم الإعدام الذى أصدره ونفذه وقضى به على فرد من عائلته كان يمثل الرجل الثانى فى الدولة. قيل إن «كيم» مطمئن تماما للقرار.

•••

منذ أسابيع قليلة أدينت العاصمة الكورية بيونج يانج بانتهاك حقوق الإنسان، ورد فى تقرير للأمم المتحدة أن جرائم ضد الإنسانية كالاختطاف والاغتصاب، والاستعباد، والقتل، والتجويع؛ تستخدمها كوريا الشمالية كوسائل للتعذيب، وغالب الظن أنها لا تتم فى الخفاء أو بغير معرفة وإقرار من الزعيم، الذى قد يُستَدعى للمثول أمام المحكمة الجنائية الدولية بمقتضى الإدانة الأممية.

•••

الزعيم الكورى شاب فى مقتبل العمر، له وجه لطيف كامل الاستدارة وملامح عادية مُكَرَّرة تُمَاثل ملامح الملايين مِن أبناء شرق آسيا. يظهر فى الصور مبتسما، ويهتم بتصفيف شعره بطريقة مميزة، أُجبر الطلاب الكوريون مؤخرا على مُحاكاتها. نُشِرَت لكيم يونج أون عدة صور فوتوجرافية وهو بعد طفل صغير، وقد أثارت هذه الصور شجونا كثيرة، فالملامح الطفولية البريئة لم تكن لتتنبأ بمسلكه العنيف شابا، ولا بالأفعال شديدة القسوة والوحشية التى يرتكبها يوما بعد يوم.

لا تزال واقعة إعدام زوج العم متداولة كلما جاء ذكر لكيم يونج أون؛ طَبَّقَ الرجل المثلَ الشعبى القائل: «يقتل القتيل ويمشى فى جنازته». لا يعرف أحد على وجه التحديد إن كان قد ندم على فعلته، أو لبث مقتنعا بها تمام الاقتناع، لكن البادى أمام الناس أنه شخص قادر على القتل والابتسام وإبداء الأسف فى آن.

•••

ضرب جورج بوش الابن مثالا نموذجيا حول تناقضات الشخصية وانعكاساتها على أسلوب الحياة، يعطينا هذه الأيام درسا عمليا ملخصه: كيف يكون المرء قاتلا وفنانا.. مجرما ومبدعا.. عنيفا ومرهف الحس. كيف يشن حربا مفجعة مثل الحرب على دولة العراق، فيدمر بلدا وشعبا، ثم يعود ليزاول هواية فنية. كيف يُلقى وراء ظهره بآلاف القتلى والجرحى، ويغمض عينيه عن اقتتال داخلى لا ينتهى، ويجلس ليرسم اللوحات ويتعامل مع الألوان، ويقيم معرضا لأعماله التشكيلية. الرئيس الجمهورى السابق الذى تولى رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية لأعوام ثمانية، حارب خلالها العراق وأفغانستان، يعرض إبداعاته هذه الآونة فى المكتبة الرئاسية بمدينة دالاس، كى يشاهدها الناس.

يطفو سؤال مرة بعد مرة: أيجمع شخص واحد بين وجهين؛ وجه الوحشية المفرطة ووجه النعومة والشاعرية؟ يبدو الأمر غريبا إلى حد ما، مع ذلك نسمع عن جرائم مروعة ارتكبها أشخاص؛ أفراد عاديون، ثم راحوا بعدها يمارسون حياة طبيعية، ويلاطفون معارفهم وأصدقاءهم وكأنهم لم يرتكبوا شيئا ذا بال.

•••

الحقيقة أن المظهر الهادئ الودود الذى قد يبدو عليه بعض الأشخاص لا يُعَبِّر دوما عن الواقع، ولا ينعكس الحديث المنمق ذو النبرة الحنون على سلوكيات صاحبه بالضرورة، قد يخفى كلاهما وراءه شيئا نقيضا. أصحاب الأوجه المتعددة أكثر تهديدا وخطورة، أما صاحب الوجه الوحيد فيراه الآخرون كما لو كان ساذجا؛ مفضوحا ومكشوفا، لكنه فى فضيحته وانكشافه أكثر صدقا واتساقا مع الذات، بما يجعله غير قادر على التلاعب بالآخرين.

البعض يختار بإرادته أن يُظهِرَ للآخرين وجها غير حقيقى فيما يخفى وجهه الأصيل، وربما يطول به الأمر لسنوات منتحلا تصرفات وسلوكيات ليست له. يفرز اللاوعى فى بعض الأحوال المُعَقَّدة دفاعات نفسية، تُخَوِّل للشخص الذى يعانى صراعا داخليا الظهور بأوجه عدة، كل فى وقته المناسب، دون أن تكون له سيطرة على أى منها. أحد الوجهين كاذب، والآخر صادق، أحدهما عميق وراسخ، والآخر سطحى قابل للإزالة.

•••

نرى فى الفيلم البريطانى الأمريكى «12 عاما من العبودية» للمخرج ستيف ماكوين، العبد الأسمر «نورثوب» وهو يمسك بالسوط مجبرا ليطيع صاحب المزرعة، إذ يتلقى منه أمرا بجلد العبدة ــ السمراء أيضا ــ عقابا لها على محاولة الهرب منه. يبدأ نورثوب مهمته مترددا، ثم يقوم بعد إتمامها، وبعد أن ينظر فى عينى ضحيته المتحجرتين، بتحطيم آلة الكمان التى يعشق العزف عليها. ما يدركه المشاهد دون شرح؛ أن العبد الأسود المؤمن بحريته رغم سنوات القهر، لم يتحمل التناقض الكائن بين الألحان العذبة التى تُخرِجُها أصابعه من الكمان، وبين لسعات السوط التى صبتها يداه على جسد المرأة العاجزة عن حماية نفسها، فيختار لنفسه وجها واحدا؛ وجه الحِدَّة والشراسة، لكننا نعلم يقينا إنه اختار أن يقسو على نفسه، وأن يعاقبها، وأن فى داخله وجها آخر أكثر رحمة ورهافة.

•••

زعماء وقادة كثيرون ارتكبوا جرائم وحشية فى حق معارضيهم، واحتفظوا بكلماتهم الناعمة المعسولة أمام شعوبهم. مِن الأشخاص مَن هم قادرون على مزاولة حيواتهم جامعين فيها الوجهين معا: وجه الوحشية ووجه النعومة، لكن البعض الآخر لا يملك هذا الترف.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات