الرموز الراحلة وقوة مصر الناعمة - وليد محمود عبد الناصر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 8:52 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الرموز الراحلة وقوة مصر الناعمة

نشر فى : الأربعاء 10 مايو 2017 - 3:40 م | آخر تحديث : الأربعاء 10 مايو 2017 - 3:40 م

فى الأيام القليلة الماضية رحل عن دنيانا قامتان لهما وزنهما وقيمتهما فى عالم السياسة والدبلوماسية والفكر والثقافة والإعلام، هما الأستاذ الدكتور بطرس بطرس غالى والأستاذ محمد حسنين هيكل، رحمهما الله تعالى، وكل منهما ليس بحاجة إلى أى تعريف أو تقديم، بل هما أغنى عن أى كلمات تقال أو تكتب، على الرغم مما قد يكون بينهما من اختلافات فى المسار والمسيرة. ومن قبل ذلك، وعلى مدى آخر عامين تقريبا، غيب الموت الأستاذ الدكتور عبدالعزيز حجازى، أحد المعالم البارزة فى علوم الاقتصاد والتمويل والمالية، من حيث النظرية والتطبيق، بالإضافة إلى مناصب رفيعة كثيرة شغلها، ومن بعد ذلك رحل عنا الكاتب والأديب الكبير الأستاذ جمال الغيطانى، وعقب ذلك رحل عنا العالم والعلامة والطبيب والإنسان الكبير والوزير السابق الدكتور إبراهيم بدران، كما غاب نجمان من نجوم الرياضة المصرية والعربية، وكرة القدم تحديدا، وهما الكابتن حمادة إمام والكابتن محمود بكر. وقد يكون قد غاب عنا خلال تلك المرحلة آخرون كان لهم بصمات على مجال أو أكثر من مجالات الحياة داخل مصر وخارجها، ممن لا يتسع المجال لذكرهم هنا.

إلا أن الاستنتاج الذى توصلت إليه من جراء الاستطلاع المتعمق لأوجه التشابه فيما بين هذه الأسماء العملاقة، بالرغم من اختلاف مجالات التخصص والإبداع والعطاء بين كل منهم فى بعض الأحيان، هو أن ما يجمع فيما بين جميع هذه الأعلام الخفاقة ليس فقط عطاؤها لوطنها ومجتمعها وشعبها فى ميدان أو أكثر من ميادين الحياة، بل ما أسهم به كل منهم من إضافة لاسم وسمعة ومكانة وطنهم مصر، سواء على صعيد الأمة العربية، أو فى القارة الأفريقية، أو على امتداد العالم الثالث، أو فى إطار الجزء الفرانكوفونى من العالم، أو فى السياق العالمى بأسره.

ويقودنى الاستنتاج السابق ذكره إلى النظر إلى أن عطاء البازغين والنابغين من أبناء مصر كان أحد أهم مكونات ومصادر ما يمكن أن نطلق عليه «القوة الناعمة» لمصر، وهى قوة تبدت على مدى العقود، بل والقرون، فى أشكال مختلفة وتجلت فى صور متنوعة من الريادة والقيادة للمحيط الإقليمى بأسره عربيا وأفريقيا وإسلاميا وعالم ثالثيا ومتوسطيا، بل وفى بعض الحالات على مستوى المحيط العالمى، ما بين الثقافة بأبعادها الكثيرة من أدب بأنواعه المختلفة من رواية وقصص وشعر ونقد، ومن تأريخ وكتابة السير والكتابات الموسوعية وغيرها، وما بين الفنون بما تشمله من المسرح والسينما والفنون التشكيلية وفنون الأطفال والرسم وغيرها، وما بين الرياضة بأنواعها المتنوعة الفردية والجماعية.

فمن الصحيح أن مصر امتلكت دوما مقومات كثيرة وروافد لا تحصى مثلت ركائز لقوتها الناعمة، ولكن الصحيح أيضا هو أن توظيف وإظهار هذه المقومات لا يتم بذاته ولا بصورة تلقائية، بل يحتاج إلى جهد وعطاء البشر، أى المواطنين، خاصة من المتميزين فى مختلف المجالات، وهم وحدهم القادرون على ترجمة وجود هذه المقومات إلى واقع معيش على الأرض، بل وإلى ريادة دامت لفترات زمنية ممتدة، من خلال كون بعض الكفاءات المصرية شغلت مناصبا رفيعة ولعبت أدوارا إيجابية فى العديد من البلدان الأخرى واحتلت مواقع قيادية فى منظمات دولية وإقليمية، سواء عامة أو متخصصة، بل إن من هذه الكفاءات من ساهم فى صياغة وكتابة مواثيق دولية، مثل ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمى لحقوق الإنسان، وكذلك النظم الأساسية لمنظمات وتجمعات إقليمية عربية وأفريقية وأفرو/آسيوية وإسلامية وعالم ثالثية، بالإضافة إلى دساتير الكثير من الدول التى تقع داخل حدود الدوائر التقليدية أو المستجدة للتحرك الخارجى للدبلوماسية المصرية.

وبالتالى بنى كل من هذه الشخصيات مجدا، ليس فقط لذاته، بل لوطنه، وسطر كل منهم اسمه بأحرف من نور فى التاريخ عبر إنجازات ونتائج ملموسة، تم حسابها وتسجيلها فى نهاية المطاف لصالح مصر، حتى ولو كان بعض هذه الشخصيات مختلفا فى فترة أو أخرى مع الأوضاع السائدة فى وطنه الأم، قتبقى قيمة هذا العطاء خالدة لا تحكمها تقلبات أجواء السياسة أو أهواء الأفراد أو غيرها من عوامل وقتية، بل على المدى الطويل تبقى هذه الآثار رصيدا للوطن، وتصب لصالح تعاظم التأثير والوزن، حتى ولو على المستوى المعنوى، لمصر فيما بين أقاليم محيطها المتعددة. ويكفى أن ننظر إلى الشخصيات البارزة فى دول أخرى، عربية وغير عربية، والتى تصف نفسها باعتبارها تلاميذ لهذه الشخصية المصرية أو تلك، وما يعنيه هذا النسب من شعور بالامتنان من قبل تلك الشخصيات غير المصرية، والذى لا يقتصر فقط على القدوة من الشخصيات المصرية، بل يمتد بالضرورة إلى مصر ذاتها، وهو شعور يؤدى بدوره إلى تولد حالة مما يطلق عليه الولاء الروحى أو الانتماء الثقافى إلى مصر كدولة وكشعب وكمجتمع وكحضارة.

ومن الصحيح أن الشخصيات التى عرضت لها فى مطلع هذا المقال جاء بزوغها فى مراحل مختلفة من تاريخ مصر المعاصر، فمنهم من كان توهجه فى المرحلة الناصرية، ومنهم من حدث تألق نجمه فى المرحلة الساداتية، ومنهم من وصل للنجومية فى مجاله قبل تلك الحقبتين أو بعدهما، ومنهم من تواصل صيته على مدى أكثر من عهد، سواء فى نفس المجال أو مع تنوع مجالات النبوغ والتميز والثراء والعطاء وفى أكثر من مجال، ولكن بالرغم من تلك الحقيقة، فكل منهم له فضل لا ينسى وبصمة لا تنكر وأثر لا يمحى، مهما كانت درجة الاتفاق أو الاختلاف مع كل منهم ودوره وتوجهاته وانحيازاته ومواقفه، فى ميدان أو أكثر، وبما يتجاوز حدود الوطن ويكتسب آفاق العالمية أو، على الأقل، الإقليمية، وينم احتساب هذا الأثر، وبشكل تراكمى فى خانة تعزيز القوة الناعمة المصرية.

وفى ختام هذه الكلمات، أعرب عن الأمل فى ألا يكون رحيل تلك الرموز التاريخية عن عالمنا غير قابل للإحلال، بل أن تبرز فى صفوف الأجيال الجديدة من النشء والشباب فى مصر كفاءات جديدة، تستطيع بمرور الوقت، اكتساب القدرات وتطوير الإمكانات وبناء الملكات وبلورة السمعة والصيت اللازمين، ومع الإقرار بالطبع باختلاف الظروف ما بين زمن وآخر، وبحيث تستطيع أن تحقق الاستمرارية والتواصل لتأثير ومكانة القوة الناعمة المصرية على الأصعدة الإقليمية والدولية، حتى مع اختلاف الصيغ وتجدد الصور والأشكال.

وليد محمود عبد الناصر مفكر وكاتب مصرى
التعليقات