يكاد القانون يقتل الثورة المصرية. فهناك منطق مقلوب فى محاسبة النظام السابق من خلال نفس قنواته وآلياته التى صنعها هو بنفسه بل عن طريق نخبه القديمة. وهو الأمر الذى يعنى ارتداد الثورة من الخطوط الثورية فى هدم ودك حصون وبنى النظام القديم إلى خطوط التدرج وتحسين الأوضاع نسبيا، وبالتالى الإيمان بإمكانية التغيير من داخل مؤسسات النظام والدولة، أى الإصلاح. ومن هنا فبدلا من العمل الثورى فوق الدستورى والمتجاوز للبنى والقواعد القانونية يتم التراجع للعمل المشرعن من قبل النظام العام والعمل تحت مظلة الدولة وداخلها. فالإصلاح يندلع بكثافة حين يتم مخالفة القانون، ثم يشتد أكثر حين يبدأ القانون فى مخالفة الدستور، ثم تنتهى حدوده حين تبدأ قطاعات واسعة إدراك أن القانون والدستور يشرعون الفساد وتوحش النظام الحاكم وأتباعه، وأن الدستور والقانون ليسا أشياء مجردة وحقائق كلية فى الخارج ولكنهما انعكاس للفئة الحاكمة ورغباتها. وحينها يتم الخروج على كل من القانون والدستور؛ أى الثورة.
والحقيقة أن الثورة بعد نجاحها الأولى فى قطع رأس الملك أو على الأقل إزاحته جانبا قد وقعت فى الفخ الذى حاول سدنة النظام نصبه فى أثناء الحدث الثورى ذاته وهو: محاصرة الثورة بالأغلال القانونية والدستورية. وبدأوا فى توجيه طاقة أكاديمية وعلمية تسائل الحدث الثورى عن مدى قانونيته ومشروعيته. وبالطبع كان أول الأسهم التى تم إطلاقها هو الخروج على الدولة؛ وهو أمر صحيح بالكلية. فالفعل الثورى هو تجاوز تلك الأطر التى تتحول لقيود مكبلة للأمة ثم بعد نجاح الثورة يتم تفكيك تلك البنى القديمة وتركيبها بشكل جديد قادر على إحداث قطيعة كلية مع النظام السابق بشكل عام وليس النظام السياسى فقط. وهو ما يعنى تفكيك كل التشريعات والدستور الذى يصيغ البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وإعادة صياغة العلاقة بينهم. ولأن هؤلاء السدنة يعبدون الإله الجديد (الدولة ونظمها) كان أحد أطرف الانتقادات للثورة هو أن الثوار لم يحتلوا جهاز الدولة. وهنا هم يتحدثون عن شرعية الانقلاب لا شرعية الثورة. فهم على أتم استعداد لقبول نخبة جديدة إذا استطاعت الاستيلاء على هذا الإله وإدارة المعبد القديم. ولكن لا يستطيع خيالهم السياسى والفكرى تقبل ثورة تتجاوز الإله.
●●●
المشكلة الحقيقية ليس فى هذا الفريق من العبيد ولكن فيما يمكن تسميتهم بمفكرى الدولة. ومفكرو الدولة غالبا لا يخرج خيالهم السياسى والفكرى عن حدود الاصلاح وتقديس الدولة والنظام (ليس بمعنى النظام السياسى ومن الممكن أن يكون أغلب هذه النوعية من المفكرين من المعارضين). وهنا حدث إرتباك شديد فى التعاطى مع الثورة. وتم اختزال الثورة فى وجهها السياسى وتم اختزال هذا الوجه السياسى فى جسد الرئيس. وقاد هذا إلى التراجع الفورى لبنية النظام القديم ودولته، وبدأ الحديث عن الفراغ الدستورى الذى يجب أن يملأ، ومن ثم ترشيد العمل الثورى وإدخاله فى رحم الدولة. وهكذا حدث تحول كبير فى مسار الثورة. وبدا أن علينا استكمال المشروع الثورى من خلال آليات اصلاحية مثل محاسبة النظام السياسى السابق من خلال مؤسسة القضاء. وتم إغفال أهمية التغير الجذرى والفورى للبينة الاجتماعية والاقتصادية ونمط ممارسة السلطة وأشكال البنية السياسية الجديدة.
والحديث عن استقلال القضاء يعد وهما كبيرا من منظور تفكيكى. وعدم استقلال القضاء كمنظومة لا يعنى عدم استقلالية القضا. فمن الوارد جدا أن يكون القضاة شرفاء ومستقلين. إلا أن قرارات هذه المنظومة منغمسة فى شبكة كبيرة من علاقات القوة والسلطة مما يفقدها استقلالية حقيقية. فمثلا، القضاء يعتمد على أجهزة الداخلية المختلفة فى جمع الأدلة والتحريات والبيانات عن قضية ما، بالإضافة إلى اعتمادها الرئيسى على جهاز مثل الطب الشرعى. أى بشكل عام هى معتمدة بشدة على تعاون ونزاهة الأجهزة التنفيذية المختلفة معها وعلى ما يمكن تسميته بمنظومة الخبراء. ولهذا لم يكن غريبا أن نشهد هذا الكم من البراءات فى قضايا قتل المتظاهرين. فليس من المتوقع فى حالة عدم حدوث أى تغير جذرى فى المؤسسات التنفيذية المختلفة أن تقوم بتقديم أدلة بنفسها لتدين نفسها. فالمؤسسات لا تقوم بتفكيك نفسها ذاتيا عن وعى على أى حال. فمثلا يمكن للشرطة أن تثبت أن أحد أفرادها المتهمين بقتل الثوار لم يكن أصلا بالخدمة من خلال كشوف الحضور والانصراف التى تحت أيديها، وهو ما حدث بالفعل فى أكثر من واقعة.
●●●
وعلينا أن نتساءل أين كانت استقلالية المنظومة القضائية حينما كان يتم تأليف البنية القضائية للدولة لصالح النظام السابق وأفراده؟ هذا لا يعنى أن قضاة كثيرين لم يقاوموا مثل هذه الأمور، ولكن فى الأخير كانت السلطة تحقق رغباتها. وأحيانا لا يشكل القضاة والمثقفين جزءا مستقلا عن تركيبة ونظام السلطة. بل هم أحد أعمدة تلك التركيبة وهم من يسبغون عليها الشريعة. وهنا يجب أن نتساءل لماذا فشل القضاء من أخذ موقف مع المستشار عبدالمعز فى قضية التمويل الأجنبى؟ وكيف تم ذلك من خلال منظومة تفترض الاستقلالية والتفرد؟ ولماذا تسيطر على تلك المنظومة حتى الآن النخب التابعة لنظام مبارك؟ فى الأخير ينبغى علينا أن نأخذ فى تحليلنا الأبعاد الطبقية وشبكة المصالح العضوية الاجتماعية والاقتصادية والمعرفية أحيانا التى تربط تلك المنظومة و تغزل خيوطها مع النظام العام ككل. إننا أمام مواجهة حقيقية بين الثورة التى تحاول إعادة صياغة الترتيب الاجتماعى وعلاقة الدولة بالمجتمع وبين المؤسسات المختلفة التى تحاول إنتاج الدولة والنظام على نفس التصور والانماط القديمة فى ممارسة السلطة ولكن مع اتاحة فرص للاصلاح.
وقاد هذا النمط من النضال القانونى إلى تحويل مسار ورؤية الثورة. فبدلا من اتخاذ مواقف جذرية تجاه قضيا جوهرية كان من شأنها أن تؤدى إلى سحق بينة السلطة القديمة مثل أحداث محمد محمود ومجلس الوزراء ثم مجزرة بورسعيد، تم مد عمر النظام بل إعطاؤه الفرصة لإعادة إنتاج نفسه من خلال انتظار تقصى الحقائق ومن ثم الانتقال إلى المحاكمات ومن ثم محاسبة بعض الأفراد بدلا من إحداث تحول ضخم فى جهاز الدولة ومؤسساتها وتغير تركيبة السلطة والقائمين عليها وخلق مؤسسات جديدة تكون بمقدرتها تحقيق الطموح الثورى.
النضال القانونى قادر على اختزال تركيبات الثورة ومحاصرة ديناميكيات التفاعل بها وتحويلها لمجموعة من المرافعات الحقوقية وإخراجها من المسارات الكلية وفرص التحول والتغير الجذرى إلى عالم الجزئيات والتفاصيل القانونية، ومن ثم وضع الأيدى على نقاط اصلاحية ضيقة. فبدلا من أن تكون أزمة حادث ثورى مثل محمد محمود هى فرصة لإحداث تحول ثورى فى مؤسسة الشرطة وطبيعة علاقتها بالجمهور ونمط ممارستها للقوة وهيكلتها الداخلية والقائمين عليها، تتحول الفرصة إلى لجنة توجه اللوم باستخدام عنف مفرط ضد المتظاهرين وتقوم النيابة بالتحقيق مع بعض الضباط ثم لا تستطيع إثبات أى شىء، أو تتمكن من عقاب أحدهم ويتم التضحية به وإعفاؤه أو حتى سجنه. وهنا تختزل القضية الثورية إلى مخالفة جنائية لشخص ما تجاوز حدود القانون فى عمله. وبدلا من أن نتناول قضية مثل ثورة مكتبة الإسكندرية بشكل يسمح لنا ببناء تصور جديد لعمل مؤسسات الدولة الثقافية واستقلال مثل تلك المؤسسة عن رغبات النخبة الحاكمة وتغير دور النخب فى المجتمع والقضاء على النخب التى ساعدت فى استفحال وتوحش النظام السابق وفساده وخلق نخب جديدة، تختزل القضية فى توجيه بعض الاتهامات القانونية لفرد أو مجموعة من الأفراد يمكنهم الخروج منها عن طريق بعض المحامين المهرة.
●●●
عفوا القضاء ليس مستقلا لا من الناحية النظرية والعلمية ولا من الناحية العملية والواقعية فى مصر. والقانون قادر على أن يتحول لخنجر يطعن الثورة فى القلب.