عَـــوْدَة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 10:43 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عَـــوْدَة

نشر فى : الجمعة 10 يونيو 2022 - 7:50 م | آخر تحديث : الجمعة 10 يونيو 2022 - 7:50 م

إذا حَصَّلَ الواحد هدفًا قطع مِن أجلِه مَسافةً مُعتبَرةَ؛ كانت عودتُه ظافرةً، أما إذا فشلَ في الحصولِ على مُبتغاه؛ قيل إنه عاد يَجرُّ أذيالَ الخيْبة. تُوصَف العودةُ بأنها محمودةٌ أو ميمونة؛ إن رحَّبَ بها الآخرون وثمَّنوها، فقد يعتزلُ المَرءُ عملًا ثم يُقرر معاودتَه، فإن أظهر المهارةَ ذاتها أو فاقها؛ كان القرارُ في محلّه، وإن أخفقَ وظهرَ بمستوى أدنى؛ أشفقَ الناسُ عليه من نهايةٍ مُهينة. بعضُ الرياضيين حاولوا العَودةَ إلى الملاعبِ في أعقابِ فتراتٍ طويلةٍ من الانقطاع؛ لكنهم عجزوا عن تحقيقِ المَطلوب، ونالوا مِن الجماهير ما يُوجِع.
• • •
مع انتهاءِ فترةُ الراحةِ بين شوْطين جاء صوتُ المُعلّق حماسيًا: عودةٌ إلى المُباراة، وإذا حلَّ موعدُ الفقراتِ الإعلانيةِ التي صارت ثابتة؛ تقطع على المُتفرج تركيزَه، وتُشتّت انتباهَه، وتُفسِد عليه اندماجَه؛ ألقت الشاشةُ في الوجوه بعبارةِ: فاصل ونعود.
• • •
العودةُ اسم مرةٍ من الفِعل عاد، أيّ آب ورَجَع. غالبًا ما تُعطي المُفردةُ إيحاءً إيجابيًا؛ إلا أن تكون مقرونةً بمرضٍ أو علة، أو بشخص لا تُستحَبُّ صحبتُه ولا يُستساغ مَسلَكُه ووجوده.
• • •
عودةُ الابنِ الضَّال؛ فيلمٌ من أفضل ما قدَّم يوسف شاهين بظنّي، فيه مِن مُستويات الرَّمز ما يجعل المُشاهدةَ تحديًا، وفيه من جمالِ الأداء ما يروي العطَش. بعضُ الناسِ لا يُفضّلون مشاهدةَ أفلام شاهين كونها تحملُ قدرًا من التعقيد والذاتية وأحيانًا التكلُّف، مع هذا تبقى في مُجمَلِها تجربةً فارقةً، وعلامةً مؤثرةً في تاريخ السينما المصرية. أما والحديثُ عن العودةِ، فلا يفوت مُحبي الأفلام القديمة فيلمُ عودة أخطر رجُل في العالَم؛ مستر إكس، لصاحبِ البَصمةِ الفنيَّة الخالدة فؤاد المهندس. لا أملُّ متابعة الفيلم كلَّما عرضته قناةٌ، ولا أزال أجد مُتعةً خالصةً في أغلب لقطاته، وأعتقد أن الجمهورَ وإن اختلف على كثير الأعمالِ والفنانين، فقد مَنَحَ فؤاد المُهندس أعظمَ قدرٍ من التوافق.
• • •
تمُر السنونُ والعقود وتتوالى النكبات والهزائم، ويبقى حقُّ العودة ثابتًا لا مُساومة عليه ولا تفريط، تتهاوى عروش وتنحني أعناق، ويعلن اليائسون أن القضية قد ماتت وأن فلسطين قد انتهى أمرها؛ فيتبين أن ثمَّة حياة وجذورًا ضاربةٌ في أحشاءِ الأرض، وثمَّة روح نضالية لم تنضُب بعد؛ تعرفُ التاريخَ وتحفظُ الهُوية. العودةُ للديار ستتحقَّق ذات يوم وإن طال الانتظار، فشعبٌ يُقاوِم مثلما يتنفَّس من العسير أن يختفيَ أو يذوب.
• • •
أعرف أشخاصًا كثيرين قد عادوا منذ ما يزيد قليلًا على السنوات العشر إلى الوطن؛ مُتلمّسين أملًا قد لاح في الأفق، مُستبشرين ببُرعمٍ واعدٍ شارف على التفتُّح، عازمين على المُشاركة في بناءِ مُستقبلٍ مُبهِج؛ لكن الضوءَ الذي تبدَّى لم يلبث أن خبا وذبُلت النبتةُ في مكانِها وذوت. سافر أغلبهم من جديد مُحمَّلًا بالإحباط والبؤس، طرق أبوابًا أخرى أو عاد أدراجه إن وجد الفرصة؛ مُقسِمًا ألا ينخدع ثانية ما بقي له من عمر.
• • •
قدَّمت الرائعة عبلة كامل فيلم عودة الندلة، والندلة هنا هي البطلة التي تعرَّضت لخيانة زوجها بعد اشتراكهما في سرقة. بقدر ما وجدت الفيلم مسليًا لطيفًا، بقدر ما لم أفهم العنوان ولم أدرك سبب اختياره. النذالة صفة سقيمة، فيها غدر وخسَّة، والحقُّ أن النذلَ الوحيدَ والأكيدَ في الفيلم هو جعبل؛ الزوج الذي أدى دورَه القدير الراحل عزَّت أبو عوف. على كل حال، يبقى الفيلم بخفَّةِ روحه والقبولِ الذي يحظى به الممثلون جميعُهم، واحدًا من أفلام الكوميديا المتميزة.
• • •
من مأثورات القول أن العودةَ إلى الحقّ فضيلةٌ؛ إذ مراجعةُ النفسِ أمرٌ شاق قد يسبب حرجًا أمام الآخرين، كما أن صعوبةَ الاعتراف بالخطأ تجعل الاستمرار فيه أهون، وكثيرًا ما قاد الخطأُ لآخر أكبرَ وأفرزت الأخطاءُ المُتراكِمةُ بناءً مُحكَمًا يستعصى هدمه.
• • •
كَتَبَ توفيق الحكيم في مَطلعِ السبعينيات "عودة الوعي"، وهو الكتابُ الذي حظى بهجومٍ كاسح، إذ حوى نقدًا مُكثفًا لأخطاءِ وزلات الحقبةِ الناصرية، والحقُّ أن هذا العملُ مِن الأهمية بمكان؛ فالعودة لما مضى واجبٌ واستخلاص الدروسِ والعِبَر ضرورةٌ للتقدُّم، أما الغاضبون من النصّ؛ فقد عابوا صدوره بعد رحيل الرئيس وليس في أوج حضوره.
• • •
لعلَّنا نفتقد شجاعةَ المُواجهة في حينها ووقتها؛ لكن دوافعَ منطقيةً قد تتسبّب في التأجيل منها غيابُ البصيرة في لحظاتِ الكَربِ، وتردي الوعي مع فيضانِ التصفيقِ والتهليل.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات