فى عام 1982 اشتعلت أزمة الديون فى الدول النامية وضربت عددا من دول أمريكا اللاتينية على وجه الخصوص. كانت بوليفيا تعانى من أعراض اقتصادية مختلفة لأزمات هيكلية كثيرة، ضاعف من حدتها أزمة الديون الخارجية. بوليفيا كانت تعانى من الوقوع فى مصيدة الفقر، فهى تعانى من معدلات فقر مرتفعة، ومديونية كبيرة، ثم دخلت فى موجات عنيفة من التضخم الجامح جعلت الدولار الأمريكى الواحد يتم صرفه فى السوق السوداء بنحو 5000 بيزو بوليفى فى يونيو 1983، ثم بنحو 10.000 بيزو فى يناير 1984، ثم بنحو 50.000 بيزو فى يونيو من العام نفسه، ثم ارتفع الدولار الأمريكى ليصل إلى 250.000 بيزو بحلول شهر ديسمبر من عام 1984 وبلغ نحو 2 مليون بيزو يوليو 1985! ففى عام واحد فقط ارتفعت أسعار الصرف بأكثر من ثلاثين ضعفا.
بوليفيا التى كانت تعتمد بشكل كبير على إنتاج وتصدير القصدير تعرضت لصدمات خارجية إضافية سببها انهيار أسعار القصدير فى البورصات السلعية فى أكتوبر من عام 1985، وهو ما أدى إلى مزيد من عجز الموازنة فضلا عن تسعير المواد البترولية بالعملة المحلية فى وقت التضخم الجامح بما كان مردوده مخيفا على عجز الموازنة وكان السبيل الوحيدة لسد العجز هو مزيد من طباعة البنكنوت ومزيد من الديون المتراكمة. لا يمكن أيضا إهمال العامل الجغرافى الذى يعزز من عمق الأزمات الاقتصادية الهيكلية فى بوليفيا نتيجة لارتفاع تكلفة النقل. الأسباب مختلفة ومتعددة لأزمات بوليفيا لكن المحصلة النهائية أزمات حادة تشبه إلى حد بعيد تلك الأزمات التى يواجهها الاقتصاد المصرى حاليا.
عجز مزمن وحاد فى الموازنة العامة للدولة، مديونية كبيرة ترتب أعباء كبيرة على الدولة ومخاطر مستقبلية من التعثر، تراجع حاد فى أسعار صرف العملة المحلية وتضخم جامح (لحسن الطالع أنه لم يصل إلى تلك المستويات فى مصر) يزيد من حدة أزمة الفقر وتداعياته الكبيرة التى تدور بالبلاد فى دائرة مفرغة تجعل التنمية الاقتصادية شبه مستحيلة. الفقر ينتج فقرا، ينهك الشعب ويضعف مقومات التنمية البشرية إلى الحد الذى يجعل رأس المال البشرى غير منتج، ويجعل البشر عبئا على الدولة وليس أصلا من أصولها.
***
لم تكن بوليفيا وغيرها من دول أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية (ما بعد الاتحاد السوفيتى) لتنهض من عثرتها الاقتصادية لولا جهود إسقاط الديون وجدولتها. ولم تكن تلك الدول تسلم نفسها لقمة سائغة لمؤسسات التمويل الدولية التى تضع فى أهم أولوياتها التأكد من التزام الدولة بسداد مديونياتها الخارجية، وليس الخروج من الأزمات والتعامل مع الفقر بحكمة. الحجة التى تتبناها الدول الكبرى ومؤسسات التمويل الرافضة لإسقاط الديون هى أن الدولة تصبح غير مؤهلة للحصول على ائتمان جديد، والواقع يخبرنا أن تضخم المديونية بشكل كبير يجعل من الصعب جدا حصول الدولة المدينة على ائتمان جديد! المخرج الوحيد كان حينها إسقاط الديون والجدولة والشروع فى برنامج إصلاحى معجل يقوم على العلاج بالصدمات، وإن كانت مسألة إسقاط الديون غير مناسبة فى الحالة المصرية الآن لتغير الظروف والمشهد العالمى، على الرغم من وجود ما يبرر ذلك من مرور مصر بثورتين كبيرتين، ووقوعها فريسة لتغيرات إقليمية واجتياح لمنظمات إرهابية تسبب فيها مغامرات رعناء لدول كبرى.
لكن أبرز الدروس المستفادة من التجربة البوليفية هو تمسكها بإسقاط الديون وتحدى ضغوط المجتمع الدولى ومؤسسات التمويل. كما يحسب لتلك التجربة نجاح الخبراء وفى مقدمتهم «جيفرى ساكس» فى تشخيص الأزمة بصورة دقيقة فيما عرف بعد ذلك بالاقتصاد الكلينيكى، وهو ما حال دون وضع وصفات فاشلة لأمراض اقتصادية عضال، كان من الممكن أن تزيد من خطورة تلك الأمراض. احتواء التضخم الجامح فى بوليفيا مثلا لم يقم على فكرة امتصاص المعروض النقدى من الأسواق، بقدر ما قام على إعادة تسعير منتجات البترول بصورة تقلل من عجز الموازنة وتستوعب التقلبات الحادة فى سعر الصرف. الأمر قد يختلف فى الاقتصاد المصرى كما يختلف تشخيص المرض وطرق العلاج للمرض الواحد من مريض لآخر.
***
التشخيص الدقيق لحالة التضخم «نصف» الجامح (إن جاز التعبير) فى الاقتصاد المصرى، يرد تلك الحالة فى تطورها العنيف أخيرا إلى نقص الإنتاج السلعى والخدمى وقصوره عن إشباع احتياجات السوق المحلية، فضلا عن التصدير لتوفير العملة الصعبة. والدليل على ذلك أن الجانب الأكبر من التضخم ارتبط بالانخفاض الشديد للجنيه المصرى مقابل الدولار الأمريكى عقب قرار تحرير سعر الصرف، فالإقبال الشديد على الدولار الأمريكى مرتبط بحاجة السوق المحلية لاستهلاك ما لا ينتجه الاقتصاد المحلى من سلع وخدمات. فلو أن نقص الإنتاج هو السبب فى التضخم، فكيف يكون رفع أسعار الفائدة إلى مستويات مانعة للاستثمار حلا للتضخم، بينما الاستثمار هو السبيل الوحيدة لزيادة الإنتاج ومن ثم المعروض السلعى والخدمى؟!
ما كنت أتحسب له قبل اجتماع لجنة السياسات النقدية الخميس الماضى أنه حينما ينظر فى رفع أسعار الفائدة، فإنه لا يقدم على تلك الخطوة بغرض احتواء التضخم، والحفاظ على المستوى العام للأسعار، تحقيقا لهدف السياسة النقدية الأهم وهو استهداف التضخم. لكن رفع أسعار الفائدة سيكون بضغط من البنوك التجارية، التى لم تعد راغبة فى شراء أوراق الدين الحكومى عند مستويات العائد السائدة، ما يعنى مزيدا من تضخم خدمة الدين العام، ومزيدا من عجز الموازنة العامة للدولة التى خرجت لتوها من البرلمان وهى تسابق الزمن وتتحدى تعديلات اللحظات الأخيرة الواردة، بسبب المزايا الاجتماعية التى منحها الرئيس تارة، وبسبب الأعباء التى فرضها قرار رفع أسعار الفائدة تارة أخرى.
شاهدى على ما تقدم، أن الرفع الأخير لأسعار الفائدة (بمعدل 200 نقطة أساس) قد جاء فى سياق مضطرب، وفى أعقاب فشل عطاءين متتاليين لطرح أوراق ديون حكومية على البنوك التجارية. البنوك التجارية باتت تقدر مخاطر الدين الحكومى بأسعار فائدة أعلى. الحكومة لا تستطيع أن تعمل بغير ديون، وخدمة الدين العام باتت تمثل النسبة الأكبر فى مصروفات الحكومة بأكثر من ثلث الموازنة العامة، حتى أن الموازنة تحقق فائضا أوليا، بعد استبعاد خدمة الدين من الموازنة واحتساب ما تحققه الدولة من إيرادات مقابل ما تنفقه من مصروفات.
الدروس الدولية كثيرة فى هذا السياق، والحاجة إلى متابعة وتقييم سياسات الإصلاح الاقتصادى لا تنطوى على تشكيك فى نوايا الإصلاح الحكومى، لكنها تبدأ عادة من الداخل المؤسسى قبل أن تبحث عن الموارد فى جيوب المواطنين.