كان النسيمُ كدأبه عليلًا، والفرحةُ كعادتها تملأ الوجودَ، وعدنان يجلس أمام الشاشة في حماسة؛ يداعب الأزرار، ويضغط هنا وهناك، مُوزِعًا الابتساماتِ والدمعاتِ والقلوب؛ لكن سماءَ الحجرة تلبَّدت إذ فجأة وتعكَّرت فيها الأجواء؛ فقد غدت الصفحةُ بيضاءً مِن كل سوء. تجندلت وتجمَّدت وامتنعت عن الاستجابة؛ لا ومضةٌ تصدر عنها، ولا إشارة. استغاث عدنان: انجدوني يا ناس؛ أحتاج للنكزات والتعليقات قبل أن أضيع.
تأزر الأصدقاء على الفور، وتبرع الزملاءُ وفاعلوا الخير؛ فأمدوا الصفحةَ بما ينقذها مِن عطايا، إلى أن استقرت الأمور، وعادت المياه تتدفق صافيةً في مَجاريها. هدأ خاطر عدنان بعد فورة، وانقشع عنه التوتر وزالت الرهبة، وعادت السعادةُ إلى الحجرة، وغشي أركانَها النسيمُ مرة أخرى.
أحوالُ الصفحة وإنجازاتُها بمنزلة الشغل الشاغل لكثيرين؛ مَن مِنا لا يزداد سعادة كلما ازدهرت وانتعشت، ويستبد به الحزنُ لو توعكَت وذبلت، وفقد محتواها اهتمامَ الآخرين؟ الصفحةُ السليمةُ المُعافاة، الحافلة بالتفاعلات والمُشاركات؛ مَدعاةُ فخرٍ وتباهٍ عند آلاف البشر وربما الملايين، هي مصدر راحةٍ نفسيةٍ ورضاء، حتى لو كان الظاهر خادعًا، وكان العبءُ الذي تفرضه، أكبر مِن التسرية التي توفرها.
***
خلال الشهر الماضي، بدأت في بريطانيا حملةٌ جادة، تقودها الجمعيةُ الملكيةُ المُختصة بأمور الصحة العامة؛ داعية الناس إلى مُقاطعة مَواقع التواصل الاجتماعية شهرًا كاملًا؛ شهر بلا تصفُّح. الحملةُ مُغريةٌ، حتى إنَّ بعض الجرائدِ العربية، أفردت لعرضِ تفصيلاتها مساحاتٍ واسعةٍ، كما نشرت أسماءَ الفنانين ونجومَ التمثيل الذين يعيشون بلا تواصل إلكترونيّ. جورج كلوني، وجنيفر أنستون، وساندرا بولوك، ينتمون بحسب الخبر المنشور، إلى قائمة البشر الناجيين مِن مِحنة التواصل الإجباريّ؛ لا يستغرقهم الرد على الرسائل، ولا تروضهم الضغوط.
الصفحةُ دليلُ شعبيةٍ وجاذبيةٍ وأداةٌ لنشر الفكرة؛ مع ذلك مِن الكُتّاب والكاتبات مَن أعلنوا انضمامهم للحملة، وقرروا قضاءَ شهر سبتمبر بعيدًا عن فيس بوك وتويتر. شهر يخلو مِن التغريد، ومِن كتابة مَنشور، ومِن تلقي إعجاب أو استهجان. نقلت الصحفُ عن هؤلاء عدم رغبتهم في؛ إضاعة الوقت، وامتصاص الطاقة السلبية، والانخراط في تفاعلات غير مفيدة.
تراجعت أسهمُ شركة تويتر في التقارير الأخيرة، ومثلها تقهقرت أسهمُ فيس بوك، مُسجِلة خسارة هائلة؛ إذ انخفضت أعداد المشتركين الجُدد عن المُتوقَّع. ربما لا توجد دراسات ميدانية حتى الآن، تبحث الأسبابَ وتصنفها؛ لكن المُحصلة النهائية بينة؛ لم تعد عواملُ الجذب بالقوة ذاتها، ولم يعد التواصلُ المَرجو مِن هذه المواقع مُريحًا بما يكفي.
***
مضار المَواقع التواصلية مَعروفة؛ مشاعر القلقِ والاكتئاب تسيطر على عديد المُرتبطين بها، والانعزال والمَيل إلى قضاءِ الوقت أمامها؛ يقتلان العلاقات الاجتماعية المُباشرة، والجمعيةُ المَلَكية تسألُ الناس مِن خلال حملتها؛ إن فكَّروا في التأثيرات السلبية التي لحقت بهم مع الاعتياد عليها وإدمان مُطالعتِها.
يكاد الأمر يكون مَحسومًا لصالح المُقاطعة، لكن القلقَ مِن فُقدان القدرة على مُلاحقة الأحداث؛ ذاك العَرَض الجديد، بات يؤرق الجميع. كلما تسارع الإيقاع العام، وتعاقبت الأنباء؛ تفاقم العَرضُ واشتد، خاصة في بلدان يعاني أهلوها حكمًا قمعيًا مِن الدرجة الأولى، يجعل مِن تلقي المعلومة، وكشف صدقها مِن كذبها، ونقلها، والتعبير عن الرأي فيها؛ مُهما شديدة الصعوبة.
السيطرةُ على وسائل الإعلام التقليدية مُحكَمة في بعض المُجتمعات، ومحاولاتُ خَلق وعي جديد؛ طَيع ومُهادن، لا تتوقف، وخنقُ القدرة على المُعارضة والاختلاف؛ مسار يحرز نجاحًا تلو نجاح. في مثل هذه الأحوال هل بالإمكان الدعوة لوقف التصفُّح والاشتباك؟ وماذا إذا كان أثر المُقاطعة أفدح مِن ثمن الاستمرار؛ بحلوِه ومُره؟
***
لم يطرح عدنان على نفسه أي سؤال، فقد انشغل بمُطالعة ما فاته مِن مُستجدات عن التفكير في أسئلة وإجابات. بعد أن استعاد الصفحة؛ بثَّ ما شاء مِن آراء مارقة، وأعاد مُشاركة الأخبار الحارقة، ونَشَر المعلوماتِ الطازجة، وبحث فضولًا عن الخافية. سَخَرَ وسَبَّ وشَخَرَ؛ موقنًا أن صوت الحصان الذي اختلفت القواميس في موضع خروجه؛ حلقًا أو منخارًا، أقل ما وجب. أدى ما عليه وزاد.
مرت بضع ساعات؛ ثم صرخ في مكانه عدنان، وأسمَعت صرختُه سكانَ البيت وما جاوره مِن بيوت: الصفحة تختفي! الصفحة تتلاشى! اللون الأبيض عاد وساد! الدفاعاتُ تسقط والحصونُ تنهار! راحت الشمسُ تشرق في تؤدة وسلام، بينما الدنيا تسوَّد مِن حوله؛ وقد تكثفت على بابه الطرقات، يخالطها صوتٌ أجشّ. صباحٌ أبيض جليد.