لو أراد الإنسان أن يرسم صورة قريبة من المثالية لما يجب أن يتطور نحوه المشهد السياسى المدنى العربى، على مستوى كل قطر وعلى مستوى الوطن العربى، لكانت الصورة هى كالآتي:
أولا: ألا يكون فى كل قطر أكثر من ثلاثة أحزاب. حزب قومى ديمقراطى يطرح شعارات الوحدة العربية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية، وبرنامجه يقوم على مكونات المشروع النهضوى السِّت: الوحدة العربية، الديمقراطية، الاستقلال الوطنى والقومى، العدالة الاجتماعية، التنمية الشاملة المستقلة المستدامة والتجديد الحضارى. هذا الحزب سيضمٌّ كل الذين آمنوا بمبادئ أو انضموا إلى الأحزاب الناصرية والبعث العربى والقوميين العرب.
حزب ثان يضمّ الليبراليٍّين واليساريين. هذا الحزب سيكون بينه وبين الحزب القومى شعارات كثيرة مشتركة، ولكنه قد يختلف بشأن أهمية أو ضرورة طرح شعار الوحدة العربية فى المرحلة الحالية على الأقل.
أما الحزب الثالث فسيضم جميع أطياف الإسلام السياسى المؤمنة بالعمل السياسى ضمن اللعبة الديمقراطية. ولأن هذا الحزب ينطلق أساسا من مبادئ إسلامية فستكون له وجهات نظر مختلفة عن وجهات نظر الحزبين الآخرين حتى بالنسبة للشعارات المشتركة، فوجهات نظرها بالنسبة إلى شعارات مثل الديمقراطية والحرية والمواطنة والعدالة الاجتماعية ستكون لها خصوصيتها الإسلامية.
ثانيا: من المؤكّد أنه ستكون هناك فوارق فكرية أو حتى استراتيجية بين المكونات التى ستنصهر لتأسيس الأحزاب الجديدة. وفى هذه الحالة ستشبه تواجد مختلف الأجنحة فى الحزب الواحد، كما يراها الإنسان مثلا فى الأحزاب الأمريكية والبريطانية. فتلك الأجنحة لا تتطابق وجهات نظرها حول كل الأمور، وقد تمتدّ الاختلافات من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين فى الحزب الواحد. لكنّ برنامج تلك الأحزاب، سواء دوريا أو سنويا يأخذ تلك الفروق بعين الاعتبار ويطرح صيغة واحدة لحزب واحد أمام جماهيره وناخبيه.
من هنا فان التعلُّل بأن الاختلافات الفرعية مثلا بين السّلفيين والإخوان المسلمين بالنسبة للإسلام السياسى، أو بين البعثيين والناصريين بالنسبة للقوميين، ستجعل الاندماج فى حزب واحد أمرا صعبا إن لم يكن مستحيلا، هذا التعلُّل أثبتت التجربة العملية فى بلدان أخرى بطلان طرحه. وأنه بالحوار والأخذ والعطاء، فيما بين أجنحة الحزب الواحد يمكن الاتفاق على حلول وسط تأخذ أولا بعين الاعتبار الأساسيات المشتركة ولا تضيع فى الخلافات الفرعية، أو إذا لزم الأمر تؤجّلها.
ثالثا: هناك أدب سياسى غزير يثبت أن وجود حزبين متنافسين ومتبادلين للسلطة دوريا من خلال انتخابات نزيهة هو أفضل ضمانة لاستقرار النظام الديمقراطى السياسى. ذلك أن كثرة الأحزاب وتعدد البرامج السياسية وما يتبعها من صراعات ومشاجرات تجعل المواطن غير قادر على الاختيار المتوازن الهادئ بين المشاريع، بل وقد تدفعه نحو الابتعاد عن الحياة السياسية إذا اتسمت بالصّخب والملاسنات.
كما أن كثرة الأحزاب تأتى بحكومات ائتلافية بين مجموعة من الأحزاب، الأمر الذى يجعل المواطن غير قادر على المحاسبة عندما تحين الانتخابات الدورية ويطرح موضوع استبدال سلطة قديمة بسلطة جديدة.
لكن فى اعتقادى أن التنافس فى الأقطار العربية يجب أن يكون بين ثلاثة أحزاب بسبب الخصوصية التاريخية والدينية التى لا تستطيع القفز فوق الإسلام السياسى كطرح ثالث فى الحياة السياسية العربية.
رابعا: من أجل العمل السياسى على المستوى القومى، وبسبب كثرة أعداء هذه الأمة، ولأن العمل على المستوى القطرى محدوديته ونقاط ضعفه، فالمقترح هو وجود ثلاثة مؤتمرات سنوية، يضمٌ كل مؤتمر الأحزاب المتماثلة فى كل الأقطار العربية، سيكون هناك إذن مؤتمر للأحزاب القومية الديمقراطية ومؤتمر للأحزاب الليبرالية واليسارية ومؤتمر للأحزاب الإسلامية.
ليس المقصود من هذه المؤتمرات التدخل فى الشئون الداخلية لنظام الحكم فى كل قطر عربى. إنما المقصود هو التنسيق والإغناء الفكرى ووضع استراتيجيات مشتركة على مستوى الوطن العربى ودعم الأحزاب لبعضها البعض عند مواجهة التدخلات الخارجية أو البطش الداخلى، وذلك إلى حين استقرار النظام الديمقراطى فى بلاد العرب أو قيام نوع من الوحدة بين أجزاء الوطن الواحد الكبير.
●●●
لقد قلنا منذ البداية بأن هذه الصورة التى نتخيلها ستكون أقرب إلى المثالية، إن لم تكن المثالية المستحيلة. ولكن من قال بانها ستتُم فى خطوة واحدة وبشكلها النهائى المتصور؟
تلك الصورة تحتاج أن تكون مسيرة، تبتدئ بالجزئى الممكن على المستوى القطرى وعلى المستوى القومى، وتتدّرج عبر الزمن والجهد والظروف نحو النضوج والوصول للصورة الفاعلة المتطورة. أبدأ بدون توقف نحو الأفضل والأكثر ارتباطا بحاجات الواقع وبأحلام الأمة. هناك ألف باب لدخول هذا المشهد.
أما الاكتفاء بمشاهدة المشهد السياسى المدنى العربى، وهو فى حالته المزرية الضعيفة الحالية غير القادرة على إخرج الأمة من ورطتها التاريخية التى تعيشها وغير القادرة على صدُ العدوان والمؤامرات الخارجية التى وصلت إلى حدود العدمية وإمكانية خروج الأمة من تاريخ الإنسانية المنتج الفاعل، هذا الوقوف السّلبى المتفرّج سيقود إلى كوارث ومآس لن تستثنى أحدا، وعندها لن ينفع الندم وستقهقه الصهيونية حتى تستلقى على ظهرها.
مفكر عربى من البحرين