من الضرورى، فى هذا الجحيم السياسى والأمنى الذى تعيشه أغلب مجتمعات الوطن العربى، طرح السؤال الآتى: هل حقا أن هناك دولا عربية، تنطبق عليها أدنى مستويات التعريفات الحديثة للدولة، أم أننا أمام وجود سلطات دولة فقط، تقوم بتنظيم ضروريات الحياة، فى حدها الأدنى، لتلك المجتمعات؟
لسنا نبالغ عندما نطرح هذا السؤال، إذ إن الانفصام بين سلطات الدول ومجتمعاتها قد وصل إلى حدود الخطر الوجودى فى بعض دول العرب.
إن غياب عقد اجتماعى، متّفق على مبادئه وتنظيمه وحقوق ومسئوليات مختلف أطرافه وعلى جهات مراقبة تنفيذه بعدالة وتراحم وشفافية، هو السبب الأول فى وجود عدم التوازن بين سلطات الدول ومجتمعاتها المدنية. وحتى عندما يوجد مثل ذلك العقد الاجتماعى، فى شكل دستور وقوانين مكملة له، فإن تطبيقه فى الواقع يتعثر بسبب ضعف مؤسسات المجتمع القادرة على حمايته من التلاعب والتزوير. ذلك أن سلطة الدولة العربية، منذ إعلان استقلالها الوطنى وحتى يومنا هذا، قد ابتلعت مجتمعاتها فى جوفها وهمشتها وأضعفت قدراتها على المساهمة الفعالة فى سير أمور تلك الدول.
والنتيجة هى مانراه أمامنا الآن:
تركُّز السلطات فى أيادٍ قليلة، وأحيانا فى يد فرد واحد، وتزوير الإرادة الشعبية بشتى الطرق فى الغالبية من الانتخابات البرلمانية والبلدية وغيرها، وغياب فاضح لسلطة القانون ومساواة المواطنين أمامه، ودفع المواطنين للتعلق بهويتهم الفرعية بدلا من الإيمان بهوية تشاركية جامعة، وفقدان مأساوى للتوازن فيما بين الضرورات الأمنية وضرورات الحقوق الإنسانية وعدالة القضاء، وإدخال للمجتمعات فى حروب وصراعات عبثية منهكة ومكلفة مع الخارج دون رجوع لها وأخذ موافقتها، خصوصا وأنها هى التى فى المحصلة تدفع الثمن وتذرف الدمع وتفارق الأحبة.
***
لو أردنا أن نستمر فى ذكر الأمثلة لاحتجنا إلى مجلدات. لكن من الضرورى إضافة ذكر ظواهر جديدة مقلقة إلى أبعد الحدود.
الظاهرة الأولى هى السماح بارتباط مصير الكثير من سلطات الدول برضى وتنفيذ مطالب أشكال كثيرة من قوى الخارج، سواء أكانت سياسية أم عسكرية أم استخباراتية أم اقتصادية ومالية.
فى هذه اللحظة لا يوجد وطن مخترق مستباح كالوطن العربى. ولا توجد أمة مهانة كالأمة العربية. يكفى أن نستمع يوميا إلى هذيان هذا الرئيس الأجنبى المجنون دون ذوق أو حياء أو ضمير إنسانى، وأن نقرأ ما ينشره أشكال من المسئولين الأجانب على شبكات التواصل فى شكل تدخلات سافرة حقيرة فى الشئون العربية، حتى نعرف مدى الضعف الذى وصلت إليه سلطات بعض الدول العربية فى مواجهة تلك التدخلات الخارجية.
وبالطبع لا يمكن للإنسان إلا أن يسأل:
هل هناك تواطؤ داخلى مع الخارج لإهانة هذه الأمة وتطويعها لقبول أنواع جديدة من العبودية، وتسليم الأمور إلى ثنائية الداخل والخارج تلك؟
الظاهرة الثانية هى انتقال البعض من سلطات دولة، محكومة بضوابط قانونية وأخلاقية ووطنية وقومية، إلى أن تتصرف كشبه ميليشيات مافوية، تخطف وتسجن وتعدم وتبتزُّ وتبعد وتمنع من السفر وتستبيح الأعراض، لكل من يتجرأ أن يعترض أو يقول كلمة «لا» أو حتى يبدى رأيا مخالفا مسالما ومتواضعا إلى أبعد الحدود.
نقول البعض ولا نقول الكل، لكننا قلقون إلى أبعد الحدود من إمكانية انتشار هذه الظاهرة، وقلب بعض أجهزة الأمن من أجهزة دفاع عن أمن وسلامة المواطنين إلى أن تكون أجهزة قمع وظلم.
نذكر تلك الظاهرتين بأسى وحزن؛ لأنهما تضافان إلى ظواهر تخلّف تاريخية، وممارسات فساد لا حصر لها ولا عد، وإلى مرض جنون الإرهاب الجهادى التكفيرى البربرى الآتى من كل أصقاع الأرض، وإلى التخلى عن الالتزامات القومية تجاه بعضنا البعض، وعلى الأخص تجاه محنة الشعب العربى الفلسطينى الشقيق فى مواجهته للاستعمار الاستيطانى الهمجى الصهيونى فى أرضه الفلسطينية المحتلة، ما يجعل هذه الأمة فى محنة تاريخية كبرى وأمام تحديات تعجز أمامها حتى أقوى الإرادات والنضالات.
***
ما الذى نريد أن نخلص إليه؟
ما نريده هو إعادة تذكير مؤسسات وقوى وأفراد المجتمعات المدنية العربية، وخصوصا شبابها وشاباتها، بأنهم ما لم يبادروا إلى تكوين كتلة تاريخية عربية، عروبية فى المشاعر، حداثية وديمقراطية فى التفكير والأساليب تناضل، بتناسق بين مكوناتها، من أجل إطفاء الحرائق وإخراج الأرض العربية من الجنون الذى تعيشه، فإن أمتهم لن تغفر لهم رذيلة التفرج دون مبالاة ودون فعل ودون تضحيات.