مرة أخرى وفى ذات الموعد، تبدأ حكاية كل عام، مصير القطن المصرى وأنين الفلاح. فبعد أن استبشر المزارعون خيرًا بارتفاع ثمن القطن ليتراوح سعره هذا الأسبوع ما بين 6000 ــ 6500 جنيه للقنطار الواحد زهر (أى بالبذرة) وزنة القنطار 157 كجم، عاد القطن ليتراجع سعره. فى العام الماضى كانت المساحة المنزرعة 233.5 ألف فدان، اليوم ونتيجة إغراء أسعار العام 2021، بل وتوقع أن تزيد عما كانت عليه بسبب ارتفاع أسعار السلع بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، حتى لو لم تكن الحرب ذات علاقة بالمنتج، قام الفلاح بزراعة 326.5 ألف فدان، أى بزيادة نحو 20% عن العام الماضى، وقد خصمت تلك المساحة الزائدة من نصيب المساحة التى كانت ستذرع أرزا فى محافظات مصب النيل، أو ذرة فى محافظات مختلفة.
للآن لا يُعرف سبب وجيه للنزول بسعر قنطار القطن إلى 4495 جنيها للقنطار، بل إن القنطار بيع الأسبوع الماضى وسط الدلتا بـ 3300 جنيه. ولا يعرف السبب الذى جعل الحكومة تقف مكتوفة الأيدى، تاركة الفلاح يطحن بدم بارد. فالإدارة التعاونية التى تمثل الفلاح، تستقبل القطن من المزارعين فى مجمعات تخص القرى الكبرى، بعدها يفرز القطن وترقم الأكياس ويكتب عليها أسماء ملاكها، ثم يؤخذ منها عينة، يستخرج منها الشعر لقياس نوع التيلة التى يجرى عليها المزاد بين الشركات، التى تتحكم فى الأسعار، وهو الأسلوب الذى جرى تعميمه منذ العام 2021، بعد أن كان قاصرًا على أربع محافظات عام 2020، ويومها كان سعر القنطار 2100 جنيه للقنطار.
ولعل الغريب فى الأمر أن الناظر إلى سياسة الدولة تجاه القطن يلحظ الاهتمام الكبير بافتتاح عديد مصانع الحلج والغزل والنسيج فى المحلة الكبرى، وغيرها من المحافظات، ما كان يستدعى أن يرتفع سعر القطن هذا العام لا أن ينخفض. بل إن تلك السياسة هى ما تجعل الهدف هو أن يكون التصنيع للمنزرع داخل الدولة، بحيث تنتهى سياسة بيع المنتج كمادة خام لأسواق الصين وأوروبا، حيث يعود إلينا وإلى غيرنا فى صورة ملابس عالية الجودة، ومرتفعة الثمن بشكل كبير للغاية، بسبب سمعة القطن المصرى عالميًا.
ما حدث العام الحالى حتمًا سيؤثر سلبا على زراعة القطن العام 2023، إذ إن الخسارة التى منى بها الفلاح ستكون كبيرة، فهناك إيجار الفدان الذى يتجاوز الـ 10 آلاف جنيه للفدان سنويًا، يدفع 40% منها نظير زراعة القطن وحده، ثم مقابل البذرة التى تربو على 1000 جنيه للفدان تصرف من الجمعيات الزراعية. وكذلك حرث الأرض بالمحراث وكذا عزق الأرض بالفئوس، وجمع المحصول يدويًا بالأنفار، والذى يصل إلى أكثر من 6000 جنيه للفدان الواحد، بسبب ارتفاع يومية العامل الزراعى إلى 70 جنيها فى اليوم الواحد. وإذ أضيف إلى كل ما سبق رش الدودة الورقية والمن والدودة الشوكية، وهى عملية مجهدة للفلاح لأنها تتم مرة أسبوعيا على الأكثر، ويتكلف الفدان 300 جنيه فى المرة الواحدة، بحيث تصل عدد الرشات فى المحصول الذى يمكث فى الأرض 5 أشهر، ما فوق الـ 30 مرة.
فى الريف يقولون «حسن السوق ولا حسن البضاعة»، بمعنى أن الفدان لو كثر وجاد إنتاجه، لا قيمة كبيرة لذلك، طالما أن السوق يتسم بالكساد والخمول. هذا المثل ينطبق على القطن المصرى عام 2022، فعلى الرغم من أن موسم العام الحالى من أفضل مواسم الإنتاج، إلا أنه بحساب بسيط بعد كل تلك التكلفة، وبالإشارة إلى أن الفدان ينتج ما بين 5 ــ 10 قناطير زهر، يصبح الفلاح بالكاد قادرا على أن يجمع نفقات وأعباء ما تحمله، وفقًا لأسعار هذا العام التى تقل عن أسعار العام الماضى.
يبقى أن نعيد التأكيد على أهمية عدم ترك الحكومة الفلاح للشركات ولمزادات القطن، وألا تنقص من مكتسبات أصبح الفلاح يحصل عليها، فهذا الأمر علاوة على أنه لا يجعل الفلاح يثق فى الحكومة، فإن الدولة أيضًا تتضرر كثيرًا من تلك السياسة. إذ لا يعتقد أن الدولة ستكون سياستها الاقتصادية سليمة وهى ترى القطن المصرى يباع خامًا للخارج. بعبارة أخرى، من المجدى للدولة أن تجد منتجاتها مصنعة بأيدٍ مصرية فى أسواق العالم، وقد زادت بذلك الصادرات المصرية من الأقطان المصرية، وارتفع مستوى دخل الفلاح، وزاد تشغيل العمالة فى المصانع المحلية، واتسعت التجارة الداخلية والخارجية، ومن ثم الميزان التجارى للبلاد، أفضل بالتأكيد من أن يغبن حق الفلاح وتغلق واحدة من أرقى وأفضل الصناعات المحلية.