كَـشَّـر - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 11:00 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

كَـشَّـر

نشر فى : الجمعة 10 نوفمبر 2023 - 7:40 م | آخر تحديث : الجمعة 10 نوفمبر 2023 - 7:40 م
صدمت سيارةٌ لم يتمكن سائقُها من التوقُّف في اللحظةِ المناسبة؛ أخرى واقفةً لم تبرح مكانًها، وخرج رجلان أحدهما كشرٌ ساخطٌ مُحتد؛ بدا أن غضبَ ملامحه قد يمتدُّ إلى لسانِه وأن تقطيبتَه قد تتحوَّل إلى لكمةٍ أو دفعة؛ لكنه ما أن رأى الآخرَ يُبادر بالأسف وسمع منه اعتذارًا وتطييبًا للخاطر، حتى لانت عريكتُه وتبسَّم قائلًا: ولا يهمُّك. بعضُ المرَّات تتلاشى تكشيرةُ العدوانيَّة الوشيكة ويحلُّ محلَّها تفهُّمٌ ورضاء؛ ناجمان عن إدراكِ المَوقِف بصيغةٍ مُختلفة.

• • •

تقول قواميسُ اللغةِ العربيَّة إن الفعلَ كَشَرَ يُفيد إعلانَ الاستياء، وإذا كَشَر فلانٌ عن أسنانِه انفعالًا بأمر ما؛ فقد أظهرها وأبانها للناظرين، وكَشَر له أي هدَّده؛ ولا يختصُّ التَّكشير بأحوالِ الغضَب وحدها، فقد يَكشر المَرء لمرأى صاحبِه؛ ويكون المعنى حينها أنه تبسَّم له وبشَّ في وَجهِه.

• • •

يُنطَق الفِعلُ بفتح حرف الشين؛ فإذا اعتلته شدَّةٌ إضافيةٌ أفادت المُبالغة، ويكون الفاعلُ مُكشِّر، والمَفعول به مُكشَّر عنه، والمَصدر تكشِير. كثيرًا ما نستخدمُ الكلمةَ في يومِنا، خاصةً وثمَّة ما يستدعي أن يَكشرَ المرءُ أمامه وأن يتمادى في تكشيرته. كلما تفاقمَت أسبابُ العجزِ؛ كلما قضَّ الأحشاءَ الهمُّ، وكلما تمكَّنت مشاعر الهوانِ من القلبِ؛ فقَدَ الإنسانُ قدرتَه على الضَحك والتبسُّط.

• • •

إن كَشَر الأسدُ عن أنيابِه فليس إلا احتمالٌ واحد؛ تكاد النجاةُ مِنه أن تكونَ مُستحيلةً، وبيت الشعر الشهير لأبي الطيّب المتنبّي يقول: إذا رأيت نُيوبَ الَّليثِ بارزةً.. فلا تظنَّن أن الَّليثَ يَبتسمُ، والقَّصد ألا ينخدَع الواحد بما يُصادف؛ فكثيرون هُم مَن يَبتسمون في الظَّاهرِ، بينما يستعدون في باطنِهم لافتراسٍ وَشيك، وما البَسمةُ المَرسومة على شفاهِهم إلا صرفٌ للانتباه عما يَنتوون.

• • •

لا نقصد بالضَّرورةِ عند ذِكر التَّكشير أن تكونَ القواطع والأنيابُ جزءًا من الصورة؛ فمتى جاءَ حديثٌ عن فلان المُكشِّر على غيرِ عادتِه؛ عنينا ببساطةٍ أنه في ضيقٍ وأن قسماتَه تحملُ انفعالًا دفينًا قوامُه الغمّ والنَّكد. بعضُ النَّاس يَحملون على صفحاتِ وُجُوهِهم تكشيرةً دائمةً وكأنها صِيغَت منذ الولادة على حالِها؛ لا كانت لهم يدٌّ في حَفرِها وتثبيتها ولا أمكن تغييرها أو إبدالها؛ فما إن يلتقط أحدهم خيطَ الكلامِ حتى تسود روُح المَرح، ويتلاشى الانطباع الأوليُّ عن شخصيَّاتهم.

• • •

بين المُشتقاتِ التي نستخدمُها دون أن يأتيَ بها مُعجمٌ من المعاجمِ صفةُ "الكِشَريّ"؛ بكسرِ الكافِ لا ضمِّها. ثمَّة رَجلٌ كِشريٌّ وامرأةٌ كِشريَّة، والكلمةُ تشير إلى شخصٍ دائم العبُوس؛ لا لسَببٍ مُستجَد أو واضح، إنما هي الهيئةُ التي يُفضل الظهورَ عليها، وقد يتصوَّر أنها تستدرُّ التعاطُفَ أو تلفت النظر، أو أنها تعطيه قدرًا مُحببًا من الجِديَّة والصَّرامة وتُضفي عليه هيبةً وَسط الناس، والحقُّ أن الكِشَرّي يلقى كثير الأحيان سُخريةً وفيرةً ما إن تغفل عينُه. يُصبح تزمُّته المُزمِن مَحلَّ تندُّر في غيابه؛ فلكل امرئٍ أوجاعه وأتراحه ومَلمَّاته، لا يعدم شخصٌ ما ينغصُ يومَه وحياته؛ لكنه لا يجعل من ذاته مِحوَر الكَّون.

• • •

يأتي الكُشري؛ هذه المرَّة بضَم الكاف، في باب "كَشَرَ" بقاموس المعاني الجامع، حيث يُوصَف بأنه أكلةٌ مَصنوعةٌ من العَدس والأرز، أما الإضافاتُ التي نُلحِقها به مثل الحمًّص والبَصل المَقليّ وغيرها؛ فلا يأتي لها ذِكرٌ، والحقُّ أن هذه الوجبةَ الشَهيَّة العظيمةَ التي تحملُ قيمةً غذائيةً عالية، والتي عُدَّت سلفًا من الأطعمةِ مُتواضعةِ التكلفة؛ قد صارت في غيرِ المُتناوَل، وتحوَّلت مع انحدار الأحوالِ الاقتصاديةِ إلى مَوضِع اشتياقٍ عند كثيرين؛ تلزمهم ثروةٌ للتعامُل معها وكفاية أفرادِ عائلةٍ مُتوسطة الحجم أو حتى صغيرةِ، حاجتهم منها.

• • •

"بمبة كشر" فيلمٌ شهير أخرجَه حسن الإمام في سبعينيات القرن الماضي، وقامت ببطولته الفنانة نادية الجندي مع القديرين عماد حمدي وسمير صبري، ليحظى بإقبال جماهيري واسع، أما أصلُ العنوان؛ فاسمُ الراقصةِ بمبة أحمد مصطفى كشر التي وُلدَت عام ألفٍ وثمانمائةٍ وسِتين، ولُقبت بستّ الكُّل، ونافَسَت في عَصرِها شفيقةَ القِبطيَّة، ويُذكر عن حسبِها ونسبِها الكثير، وقد ظهرت حكايتُها أيضًا في العمل المسرحيّ الوحيد للفنانة نادية لطفي.

• • •

يقول المأثور الشعبيُّ الطريف في وَصفِ شهر رمضان: إذا عشَّر كَشر؛ أي إذا مَضَت منه العشرة أيام الأولى، تعاقبت بقيتُه سريعًا وأوشكَ على الانتهاء، والحقُ أن الأيامَ كلَّها باتت مُتسارِعَةً مُتلاحقة؛ تعدو ونلهثُ وراءها، ترينا العَجبَ من أمرِها وأمرِنا، تخزينا وترغمنا على إدراك حقيقتنا المُتخاذلة؛ فإذا هي أدنى وأذلّ مما تصوَّرنا.

• • •

إذا كشَر المرءُ لعدوِّه فالخطوةُ التالية في العادةِ أن يَكُرَّ لينالَ منه، وأن يتبع تكشيرتَه بفعلٍ يَصدقُها ويُحيلها مَوقفًا لا لبس فيه؛ أما أن يكتفيَ بإظهارِ أسنانِه وتلميعِها وبَردها، دون أن يحاولَ استخدامَها ولو مرَّة؛ أو حتى أن يُلوحَ بإمكانية استخدامها، فضربٌ من الجُّبن والتظاهُر.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات