نشرت صحيفة الرياض السعودية مقالا للكاتب هنرى زغيب، يقول فيه إن مع التقدم العلمى والتكنولوجى لم يتغير مزاج الناس فحسب ليصبح سريعا ومقتضبا، بل تغيرت الصحافة العصرية وأصبحت خالية من النصوص الوجدانية التجريدية، كما طال هذا التغيير الأدب المعاصر ليصبح بدوره خاليا من كتابات شخصية ذاتية بل مجرد نص معلومات يقطف منها القارئ/ة خلاصة معرفية يختزنها لثقافته.. جاء فيه ما يلى.
من غنى الأدب ما يتبرعم فيه من مدارس وتيارات تورق ويتناولها أعلامه فيتركون أثرًا فى عصرهم، ثم تحل أخرى فى عصر آخر يتناولها آخرون. هذا يعنى أن لكل عصرٍ قرّاءه الذين قد لا يظلّ أحفادهم بالاهتمام ذاته لعصور تالية. لذا لم تبقَ الرومنطيقية أو الرمزية أو الواقعية أو السوريالية على وهجها فى العصور اللاحقة.
اليوم، مع تطور تكنولوجيا إلكترونية نقلت العصر إلى سرعة الإبلاغ والتبلُّغ، ومع ظهور آلاف وسائل ووسائط ومنصات ومواقع إلكترونية شخصية خاصة أو مهنية عامة، ومع نشوب جائحة كورونيّة عصفت بكوكب الأرض ساجنةً سكانه طويلًا فى محاجرهم حتى خرجوا منها كأنهم دخلوا عالَمًا آخر أو كأنهم انتقلوا من أهل الكهف إلى عالم المدنية، أرى أن مزاج الناس تغير مع تغيرات العصر الحاصلة، فلم يعد ما كان كما كان قبل التطور التكنولوجى والتقدم الإلكترونى والجائحة الكونية.
إخال المزاج العام تغيّر إلى إيقاع العصر، سريعِه ومقتَضَبِه. فلا أتصور بعد اليوم جمهورًا يتقاطر إلى قاعة يصغى إلى محاضر على منبر يقرأ محاضرة لساعة ونصف الساعة، ولا إلى شاعر يلقى قصائد ومطوَّلات معظمها شخصى لا يعنى سواه ولا يمس بها عرقًا واحدًا من جمهور مستمعيه.
حتى الصحافة العصرية تغيرت بتغيُّر هذا المزاج، فلم تعد فيها مطوّلات ولا نصوص وجدانية تجريدية شخصية بل كتابات أقصر ومعلومات أكثر وتنظيرات أقل، إلّا فى حيز تعليقات أدبية تنطلق من معلومة أو فكرة وتناقشها مع استشهادات وأمثلة.
وما أقوله عن الصحافة العصرية أقوله عن الأدب العصرى: لم يعد مزاج القارئ اليوم يحتمل كتابات شخصية ذاتية (غزل، وجدانيات، أفكار مضمرة...) بل بات الرائج اليوم (صحافيًّا وأدبيًّا) نص معلومات يقطف منها القارئ خلاصة معرفية يختزنها لثقافته، مشيحًا عن نصوص مغلقة ذاتية لا تعنيه بل تهم صاحبها وتعنى حياته الخاصة.
فى محاضرة ألقاها الفيلسوف الفرنسى جان بول سارتر على منبر جامعة السوربون لمناسبة تأسيس منظمة اليونسكو (باريس ــ 30 نوفمبر 1946) قال إن «الكتابة مسئولية، والكاتب الأصيل هو الملتزم بقضايا الفكر والمعرفة. أما الفن للفن فى الأدب فمبدأ عقيم لا يعيش ولا ينجب إبداعًا خارج بوتقته الضيقة. لا بقاءَ لأدب مفرغ من قضية».
ويلاقيه الكاتب الفرنسى الآخر ألبير كامو فى تقديم روايته «الطاعون»، فيرى أن الكتابة هى «العيش مرتين»، وهى «ليست عمن يصنعون التاريخ بل عمن يعانون فيه، من هنا أن كل كاتب هو ملتزم غيريًّا ليبقى أدبه، لا ذاتيًّا فى كتابات شخصية تسقط مع الزمن».
واضح إذًا أن الكتَّاب الذاتيين لم يعُد لهم جمهور واسع من القراء، وأن صحافة العصر هى صحافة المعلومات والرأى أو التعليق الطالعَين من معلومات، وهو ما تنتهجه الصحافة ويسرى على عالم الأدب. ودخول العصر فى الوسائط السمعية (الكتاب الصوتى) والوسائل البصرية (الأفلام الوثائقية) وسواها من التطبيقات العلْمية، غيرت مزاج القارئ من البطء السلحفاتى سابقًا إلى إيقاع موجز فى وميض مقال أو نص أدبى يقرأه على شاشة مكتبه أو لوحه الذكى أو هاتفه المحمول، يقتطف منه ثمرة معرفية مفيدة.
وما سوى ذلك تخلُّفٌ مرَضىٌّ عن العصر والصحافة والأدب.