منذ أيام كنت أتحدث مع أحد أساتذة الإدارة العامة النابهين، وتطرق الحديث إلى الحاجة إلى توثيق ذاكرة مصر التنموية، وذلك حتى ندرك ماذا حدث ويحدث فى المجتمع المصرى، ويكون هناك تراكم فى العمل، وفى فهم المشكلات، وسبل التصدى لها.
أظن أن ما ينقصنا فى مجالات عديدة، منها التنمية، هو التوثيق الذى يساعد على تحقيق التراكم، ولا نفكر كل مرة من نقطة الصفر.
التنمية التى نقصدها لا تشمل فقط البنية الأساسية، لكن تمتد كذلك إلى التنمية الاجتماعية والاقتصادية والبشرية. ويختلف التوثيق عن الدعاية، فهو عمل منهجى، يشمل الشرح والتحليل، والأرقام، والصور.
ويساعد التوثيق على تحقيق عدد من الأهداف منها: تنشيط الذاكرة بالتغيير الذى يتحقق على أرض الواقع بطريقة تلائم المثقف، والباحث عن المعرفة، والمواطن العادى وليس بأسلوب الدعاية، أو الترويج الإعلامى، والنظر إلى التنمية من جوانبها المتعددة، فهى ليست فقط تتعلق بالمنشآت، ولكن تتصل أيضا بمواجهة الفقر، وتطوير نوعية الحياة، والقضاء على العشوائيات، والتوسع فى الرعاية الصحية، إلخ. ومن ناحية أخرى فإن الحديث عن التنمية، يقدم للمجتمع مجالا للنقاش المعمق حول قضايا عديدة منها المواطنة، وتطوير الحياة، وتحديث المجتمع، والسياسات العامة فى مجالات التعليم والصحة والثقافة، وهى من نوعية النقاشات الجادة التى يفتقدها المجتمع فى أحيان كثيرة، وبالتالى يغلب عليه مساجلات تافهة، وحوارات سطحية.
ويعرف الخبراء فى مجال التنمية أن التوثيق ليس ترويجًا لإنجازات، بقدر ما هو رصد علمى للمشروعات فى مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وفق آليات محددة تشمل اختيار مشروع معين، والتعرف على الأوضاع التى كانت سائدة قبل تطبيقه، ثم رصد ملامح العمل من حيث الخطة، وعملية التنفيذ، وسير العمل، والميزانيات، والجهود المبذولة، ونتائج المشروع على المستفيدين من المواطنين، كيف غير نوعية حياة الناس، ورصد مشاهد قبل وبعد المشروع، والتعرف على أوجه القصور، وسبل مواجهتها. إذا حدث ذلك، فإنه يصبح بمثابة ذاكرة مكتوبة، مصورة، وموثقة، فإذا عادت الحكومة أو المجتمع المدنى إلى المشروع مرة أخرى، أو أراد أى طرف أن يتبنى مشروعًا مشابهًا فإن التوثيق يعينه على فهم الفرص والتحديات التى يمكن أن تواجهه.
ولا يشغل توثيق التنمية الباحث المتخصص أو الخبير التنموى فقط، ولكن ينبغى أن يمتد إلى المواطن العادى، أى الجمهور العريض، الذى يجب أن يعرف الواقع بأسلوب بسيط ومنظم، وبلغة سهلة، لا تعرف جمود اللغة الأكاديمية، ثم تضمين الصور ــ أو الذاكرة الفوتوغرافية ــ التى توضح كم وكيف التحولات التى تحدث فى حياة الناس. يؤدى ذلك تلقائيا إلى تشجيع الناس على التفكير المنظم، والابتعاد عن الشائعات والخرافات التى عادة ما تساق إليهم فى رداء أخبار أو أحاديث إلكترونية أو حكايات الشارع.
التوثيق ذاكرة مهمة، وفى الدول المتقدمة، الحكومات والمنظمات حتى شركات القطاع الخاص الكبرى توثق عملها سواء فى مواد مكتوبة أو مرئية، لأنها تعرف أن توثيق الماضى يمهد الطريق أمامها نحو المستقبل.