بعد أن انفتحت شهية المتطرفين فى إسرائيل على إعادة الاستيطان فى غزة، بعد احتلالها، وبعد أن وضعوا أعينهم على ما تبقى من الضفة الغربية، واحتلوا، بالفعل، أجزاء من جنوب لبنان ومن جنوب سوريا (جبل الشيخ إضافة إلى هضبة الجولان المحتلة أصلاً) بوصفها أجزاء مما يُسمَّى بـ (أرض إسرائيل، أو أرض الميعاد)، بات لزامًا علينا، أن ندقق مسألة حدود هذه الأرض مع مصر، طبقًا للنصوص التوراتية، ولتفسير فقهاء اليهود لها.
• • •
بداية، يجب أن نعترف بأن للنصوص الدينية سلطة وتأثيرًا على سلوك الأفراد والجماعات، والدول، وألاَّ نستهين بها ونعدها شيئًا من الماضى، أو محض خيال جامح. إذ تشير المعطيات إلى أن لها سندًا حيًا، وفاعلاً على أرض الواقع، وإلى أن مساحات التطرف، قولاً وفعلاً، تكتسب زخمًا من يوم إلى آخر داخل إسرائيل.
تفرق التوراة بين نوعين من حدود الأرض: النوع الأول، حدود الوعد الإلهى، المزعوم، لإبراهيم فى سفر «التكوين»، 15، 18: «فى ذلك اليوم قطع الرب مع أبرام (قبل أن يغير الرب اسمه إلى أفراهام لاحقًا) ميثاقًا قائلاً: «لنسلك أعطى هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات».
تمتد حدود (أرض الميعاد)، طبقا لهذا النص، كما يقول دكتور، يهوشافط نفو (مجلة «شمعتين»، العدد 137 ـ 138 1999م) بين البحر الأحمر، ونهر النيل، والبحر المتوسط من ناحية الغرب، والبادية العربية فى الشرق؛ ويصل خط الحدود من جهة الشمال حتى جبال طوروس أمانوس (جنوب شرق تركيا)، فى أقصى الساحل اللبنانى عند الحدود مع تركيا، بالضلع الشمالى الغربى، وحتى نهر الفرات بالضلع الشمالى الشرقى. تضم هذه الحدود شبه جزيرة سيناء، وفلسطين، والضفة الشرقية لنهر الأردن (المملكة الأردنية)، ولبنان وكل سوريا.
أولاً، لم يثبت، تاريخيًا، أن هذه المساحة الشاسعة من الأرض كانت بحوزة بنى إسرائيل ذات يوم على الإطلاق، ولم يدّعِ أى مؤرخ إسرائيلى عكس ذلك، لكن المفسرين اليهود لهم رأى آخر. إذ يقولون، إن النص التوراتى يقول «لنسلك أعطى هذه الأرض»، بمعنى، أن الرب سوف يعطيها، فى يوم من الأيام، لنسل إبراهيم.
ثانيًا، إذا كان الوعد أُعطى لإبراهيم ولنسله، فلماذا حُرم أبناؤه الآخرون من هاجر (إسماعيل أبو العرب) ومن قطورة، التى تزوجها بعد وفاة سارة، وأنجب منها ستة أبناء، كما يقول سفر «التكوين»، 25، 1: «وعاد إبراهيم فأخذ زوجة اسمها قطورة، فولدت له: زمْران ويقشان ومدان ومديان ويِشباق وشوحًا». وهنا، نتساءل، لماذا تُسمَّى اتفاقيات التطبيع التى وُقعت مع بعض الدول العربية، «اتفاقيات أفراهام»، وقد استبعد نسل العرب، من الأصل، من الإرث من جدهم الأكبر؟ ولماذا يتم استدعاء الجد الأكبر، إذا كان النفع يعود على إسرائيل، وحدها، فقط، اقتصاديًا وعسكريًا، وإدماجًا فى المنطقة؟.
ثالثًا، إذا كان إبراهيم قد امتلك الأرض، طبقًا، لوعد الرب له، فلماذا استجدى أهل الخليل (حفرون بالعبرية/ حبرون فى الترجمة العربية للكتاب المقدس) كى يعطوه قطعة أرض ليدفن زوجه، سارة، واصفًا نفسه بأنه غريب وضيف، كما يقول سفر التكوين، 23، 2ـ 4: وماتت سارة فى قرية أربع، التى هى حبرون، فى أرض كنعان. فأتى إبراهيم ليندب سارة ويبكى عليها. وقام إبراهيم من أمام ميته وكلَّم بنى حِت قائلاً: «أنا غريب ونزيلٌ عندكم، اعطونى مُلك قبر معكم لأدفن ميتى من أمامى».
• • •
أما النوع الثانى من حدود الأرض، فهى حدود أمر (الرب) بنى إسرائيل باحتلالها، وطرد سكانها منها. نعم. طرد واحتلال. غزو وإحلال، كما ورد فى سفر «العدد» 33، 50- 52: «وكلم الرب موسى فى عربات مؤاب على أردن أريحا»، قائلاً: «كلم بنى إسرائيل وقل لهم: إنكم عابرون الأردن إلى أرض كنعان، فتطردون كل سكان الأرض من أمامكم».
أولاً، طبقًا لهذا النص التوراتى، فإن احتلال أرض كنعان، التى تقع بالجانب الغربى من نهر الأردن، فريضة دينية. يفسر الحاخام موشيه بن نحمان (1194ـ 1270م/ من كبار حاخامات إسبانيا، المعروف، اختصارًا، باسم «الرمبان») النص قائلاً: «أُمرنا (أى فرض الرب علينا) أن نرث الأرض التى أعطاها الرب تعالى لآبائنا، أفراهام ويتسحاق ويعقوف، وألاَّ نتركها لأى أمة من الأمم أو قفرًا».
ثانيًا، يقبع شيطان المطامع فى هذه التفاصيل. ثالثًا، يتعارض مفهوم أرض كنعان مع المفهوم السائد لدى كثيرين، الذى يحصرها فى أرض فلسطين فقط.
رابعًا، سنكتفى، فى هذا المقال، بالحديث عن الحدود الجنوبية، للأرض، فيما يخص الحدود مع مصر. يفصل سفر «العدد»، 34، 1- 5، حدود هذه الأرض، التى يجب على بنى إسرائيل احتلالها، من جهة الجنوب مع مصر على النحو التالى: «وكلم الرب موسى قائلاً: «أوص بنى إسرائيل وقل لهم: إنكم داخلون إلى أرض كنعان، هذه هى الأرض التى تقع لكم نصيبًا، أرض كنعان بتخومها: تكون لكم ناحية الجنوب من برّية صين على جانب أدوم، ويكون لكم تخم الجنوب من طرف بحر الملح إلى الشرق، ويدور لكم التخم من جنوب عقبة عقربيم، ويعبر إلى صين، وتكون مخارجه من جنوب قادش برنيع، ويخرج إلى حصر أدار، ويعبر إلى عصمون، ثم يدور التخم من عصمون إلى وادى مصر، وتكون مخارجه عند البحر….».
طبقًا لأطلس «حكم التوراة» (مؤسسة الحاخام كوك، أورشليم 1993م، ص 50) فإن الإشارة إلى «وادى مصر» جاءت لتحدد بدقة الجزء الذى يعنيه النص التوراتى من نهر مصر الطويل، ألا وهو الفرع الشرقى لنهر النيل حتى مدينة الفرما (جنوب شرق مدينة بورسعيد الحالية)، التى مثَّلت حدود مصر فى فترات تاريخية معينة. وهى مساحة شاسعة من الأرض بمصر.
من ناحية ثانية، يفند، حييم بردروما (1892ـ 1970م/ أحد أهم الباحثين للجغرافيا التاريخية لما يُسمَّى «أرض إسرائيل»، فى كتابه: «هذه هى حدود الأرض، القدس، 1958م، صادر عن مؤسسة الحاخام كوك) الرأى القائل بأن وادى مصر، الوارد ذكره فى النص التوراتى، هو وادى العريش فقط، الذى يمتد مئات الكيلومترات من جنوب فلسطين إلى أن يصب فى البحر المتوسط بالقرب من العريش، قائلاً، إن وادى العريش، طبقًا لـ«التراجم الآرامية» لسفر «العدد»، هو نيل مصر. يستند بر دروما، فى رأيه، إلى تفسير «راشى»، لنص سفر التكوين: «من نهر مصر حتى النهر الكبير نهر الفرات»، الذى يقول، إن ذكر النص لنهرين، أمر يوجب المماثلة بينهما، واستخلاص أن المقصود هو نيل مصر، وإلى فرضية مفادها، أن حدود الأرض من الناحية الجغرافية حدود طبيعية: أنهار، وبحار، وجبال، وقفار وخلافه، مستشهدًا بما ورد فى سفر «يشوع» 13، 3: «من الشيحور الذى هو أمام مصر»، وبما ورد فى سفر «إشعياء» 23، 3: «وغلتها، زرع شيحور، حصاد النيل، على مياه كثيرة»، وبما ورد فى سفر «إرميا»، 2، 18: «والآن مالَكِ وطريق مصر لشرب مياه شيحور؟ ومالَكِ وطريق أشور لشرب مياه النهر؟».
وطبقًا لهذه النصوص التوراتية، فإن «الشيحور» («الشيحور» فى اللغة المصرية القديمة هو مياه الإله حور)، فى رأى بر دروما، هو وادى مصر المشار إليه فى سفر «العدد» وهو نهر مصر، وأن الاختلاف بين نص «التكوين» و«العدد» ليس سوى اختلاف فى التسمية، وأن وادى مصر يُسمَّى نهرًا؛ حيث إن معنى وادٍ هو فرع وجزء من نهر رئيس. ويتفق الحاخام، يسرائيل أريئيل، (أطلس أرض إسرائيل بحدودها طبقاً للمصادر، دار نشر «كنيرت»، 1993م) مع رأى بر دروما، إذ يقول إن وادى مصر هو الفرع الشرقى لنهر النيل، مستشهدًا بما ورد فى سفر «الملوك الثانى»، 24، 7: «ولم يعد أيضًا ملك مصر يخرج من أرضه، لأن ملك بابل أخذ من نهر مصر (تُرجمت كلمة نَحَل، أى: وادى، الواردة فى هذا النص إلى نهر، مع أنها، نفسها، مترجمة فى سفر العدد: وادٍ) إلى نهر الفرات كل ما كان لملك مصر»، ومستشهدًا أيضًا، بآراء عديد من الباحثين، من بينهم، المؤرخ اليهودى يوسف بن متتياهو فى كتابه: «أزلية اليهود، الجزء العاشر، 6، أ»، و«التراجم الآرامية» للتوراة، وبرأى كنائس فلسطين، وبتفسير الحاخام، «بحياى بن يوسف ابن بقوده»، لنص سفر «التكوين»، وبتفسير الحاخام، موشيه بن مناحيم، لنص سفر «العدد»، 33، حيث يقول: «لا يمكن للحدود، فى رأى (الرمبان)، أن تكون وادى العريش، الذى يبعد مسيرة 3-4 أيام من الخليل، وهى حتمًا ليست سوى شيحور مصر، حافة النيل».
• • •
هذا هو الرأى السائد لدى معظم مفسرى التوراة فيما يتعلق بالحدود الجنوبية للأرض (الموعودة). السؤال، الذى يطرح نفسه هو، إذا كانت حدود الأرض (الموعودة) تضم الفرع الشرقى، كله، من نهر النيل، حتى مصبه عند البحر المتوسط، فلماذا تركها بنو إسرائيل، إذًا، فيما يُعرف باسم «الخروج» من مصر فى عصر موسى، ولماذا لم يتشبثوا بأرض أمرهم (الرب) باحتلالها وطرد أهلها منها، كما يقول النص التوراتى، وامتلاكها؟ وإذا كانت مساحة أرض كنعان بهذا الحجم المهول، فما الداعى لتسميتها باسم «عَبْر الأردن»، ومعظمها بعيد جدًا عن نهر الأردن؟
أستاذ الدراسات الإسرائيلية بجامعة المنصورة