فى الخامس والعشرين من يناير 2011 ظن الجميع أنه مجرد ثلاثاء آخر يجتمع فيه بعض النشطاء للتعبير عن عدد من المطالب التى يتشاركون فيها مع عديد من المصريين وإن تركوا ليعبروا عنها منفردين. وبالرغم من التحذيرات المسبقة التى أطلقتها الحكومة لترويع معتزمى التظاهر، والنقاشات التى دارت فى أروقة المثقفين وعلى الشبكة الدولية للمعلومات وقللت من أهمية الدعوة وما يمكن أن يترتب عليها، تعامل الكثيرون مع الحدث على أنه شكل آخر من أشكال الاحتفال بعيد الشرطة سينتهى بغروب شمس الثلاثاء.
جميعنا يعرف ما حدث بعد ذلك والتصعيد الذى صاحب الحدث بعد جمعة الغضب الذى حاول النظام معها عزل مصر عن بعضها البعض، وعن العالم بالإيقاف الكامل لخدمات الانترنت والهواتف المحمولة، ومحاولات الرئيس مبارك الالتفاف على مطالب الجماهير بتقديم بعض التنازلات التى فات أوانها منذ شهور عدة. أكتب هذه الكلمات يوم الاثنين 31 يناير وسط مشاهدات متناقضة من وجود لقوات الجيش فى مناطق مختلفة من القاهرة مرحب بها من الأهالى، وغياب كامل لقوات البوليس وانفلات أمنى وشائعات بعودتها غير المرحب بها. أكتب ومازال الانترنت مقطوعة عن الجميع والشلل يلف كل جوانب الأنشطة الاقتصادية مع بداية اختفاء السلع الأساسية من الأسواق. أكتب ومازال الآلاف معتصمين فى ميدان التحرير وقد لحق بهم بعض من رموز المعارضة المصرية وعلى رأسها الدكتور البرادعى وآخرون، والرئيس مبارك مازال يحاول إثبات وجوده من خلال الاجتماع مع نائب الرئيس ووزير الدفاع فى غرفة العمليات وسط تصاعد الهتافات السياسية والشعبية وحتى الأصوات الدولية الخافتة التى تطالبه بالرحيل.
من يملك مستقبل مصر بعد أن أثبت المصريون خاصة الشباب من بينهم، أن ثلاثين عاما من الغياب عن المشهد السياسى لم تكن تعنى عدم امتلاكهم القدرة على الفعل السياسى. ولكن من منا بعد هذا التسارع فى الأحداث يملك الإجابة عن سؤال من يملك مستقبل مصر؟ فى الحقيقة قد تكون محاولة قراءة واقع ما حدث فى مصر مؤشرات للإجابة عن هذا السؤال.
بدأت الدعوة لتظاهرات 25 يناير من الفضاء الإلكترونى الذى بدا متأثرا للغاية بالتجربة التونسية ومستعدا لنقلها فى الأراضى المصرية، وانضم المصريون البسطاء تباعا فى لحظة تاريخية فارقة شملت مدنا عديدة امتدت لها عدوى ميدان التحرير. وما كان يظن أنه يوم للغضب امتد أياما واتسع جغرافيا وطبقيا وعمريا وأيديولوجيا ليصبح مطلب الجميع إسقاط النظام. لن نخوض فى موقف النظام المصرى الذى بدا عاجزا عن فهم الرسالة ومصرا على أن الأداة الأنجع هى الأداة الأمنية ولكن يهمنا فى هذا المقام نوعان من القوى السياسية، الأول هو القوى السياسية الحزبية التقليدية التى أخذتها هذه الحركة الشعبية بغتة وأظهرت عجز الجميع بمن فيهم الإخوان المسلمين على امتلاك الشارع. ولكنها سرعان ما استجمعت قواها وحسمت خيارها بالانضمام إلى الشعب فى محاولة منها للمشاركة فى كعكة التغيير التى لم يكن لهم دور إيجابى فى خبزها. القوى الثانية هى القوى السياسية غير الحزبية ونعنى بها على وجه الخصوص حركة كفاية وشباب 6 أبريل والجبهة الوطنية للتغيير. وهى القوى التى استفادت من فشل الأحزاب التقليدية فى استيعاب حركة الشارع والمساحات النسبية التى كان النظام السياسى المصرى يتيحها للتنفيس السياسى، وقررت هذه القوى فى وقت مبكر أن تقدم نفسها لمصر وللعالم كبديل توافقى يمكن التجمع حوله ولو لفترة انتقالية.
من منهم يملك مستقبل مصر؟ هل الشباب أم القوى السياسية الحزبية أم القوى غير الحزبية أم الجيش أم الحزب الوطنى أم الولايات المتحدة الأمريكية التى مازالت حتى اللحظة تراوح موقفها بين احترام رغبة الجماهير والمحاولة اليائسة للحفاظ على النظام حتى وإن اضطرت للتضحية بمبارك. برغم أمنياتى أن يكون مستقبل مصر ملكا خالصا للشباب الرائع الذى ملأ سماءنا أملا ونفوسنا رغبة جديدة فى العيش، فإن الواقع يقتضى منا القول بأن مستقبل مصر على المدى القريب مرهون أولا بتماسك القوى السياسية بأشكالها الحزبية والشعبية والشعب بجميع طوائفه وتجاوز المصالح الضيقة والرغبة فى إحراز انتصارات صغيرة ونسيان الصورة الأكبر، مرهون أيضا بقدرة هذه القوى على الاتفاق على بديل سياسى قادر على تحقيق قدر معقول من التوافق السياسى والاجتماعى والقبول الدولى. مرهون أيضا بقدرتها على مراجعة نفسها بعد استقرار الأوضاع وتطهير أنفسها من كل فساد ونخبوية وانعزال عن الشارع الحقيقى وإيمانها الحقيقى بالديمقراطية ممارسة لا شعارا والحرية والعدالة للجميع. وثانيا بموقف الجيش وحسمه للخيار بالوقوف إلى جانب الوطن والحفاظ على ممتلكاته المادية والمعنوية، بالإضافة إلى الحفاظ على سمعته الطيبة لدى المواطنين الذين عبر أطفالهم قبل شيوخهم وشبابهم بالفرح لوجوده فى الشارع. ولا يقتصر موقف الجيش على حسم اللحظة الراهنة ولكن أيضا بالدور المنتظر أن يلعبه فى التوازنات القادمة فى ظل استمرار ملفات اقليمية ملتهبة وهو الأمر الذى يجعل دور القوى الاقليمية والدولية وأعنى به الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل على سبيل الخصوص على استعداد لإحداث تغيير فى موقفها الداعم لاستمرار الرئيس مبارك كرئيس غير شرعى، فى حال إذا ما ضمنت موقفا مصريا اقليميا ودوليا داعما لها أو على الأقل غير محسوب على خصومها. مستقبل مصر مرهون رابعا بقدرة النظام السياسى على إدراك أن اللحظة الراهنة والمستقبلية قد تجاوزته وتجاوزت محاولات الإصلاح الجزئى وأن الموقف الوطنى الحقيقى فى هذه اللحظة هو احترام إرادة الشعب وعدم اللجوء إلى أساليب سياسية رخيصة الهدف منها ترويع الشعب أو تجويعه.
مستقبل مصر مرهون بنا جميعا بإيماننا بقدرتنا على الفعل السياسى والاجتماعى الواعى، وعلى أحقيتنا فى اختيار ومراجعة ومحاسبة وعزل حكامنا إذا ما توافقنا على ذلك، وعلى أن مصر دولة كبيرة تمتلك شعبا رائعا اخترع الصبر ولكن لم يقبل الخنوع.