ليس بغريب أن ينكر الحكم فى مصر وضعية «الأزمة المستحكمة» التى ينتجها إطلاق اليد القمعية باتجاه المواطن والمجتمع. ليس بغريب أن يراوح الحكم فيما خص المظالم وانتهاكات الحقوق والحريات المتراكمة بين نفى حدوثها وبين توصيفها كحالات فردية «جارى التعامل معها» من قبل السلطات العامة. ليس بغريب أن يتورط بعض الرسميين فى التحريض على العقاب الجماعى لمعارضى الحكم وفى الترويج لغرائز الانتقام دون أن يتوقف أحد فى دولاب الدولة أمام هذه الكارثة أو يبدى شيئا من الاهتمام بتداعياتها السلبية على القليل المتبقى من ثقة الناس فى إمكانية العدل فى المحروسة.
ليس أيا من ذلك بغريب، فنظم الحكم السلطوية عادة ما تمعن فى إنكار القمع ونفى الظلم وبعضها يعتاش بالفعل على صناعة متجددة باستمرار «للأعداء» الذين تستطيل قوائمهم وتبرر ممارسات العقاب الجماعى بحقهم. ومن الطبيعى هنا أيضا أن يكون الوجه الآخر لجمهوريات القمع والخوف التى تنتجها السلطوية هو سطوة الأجهزة الأمنية وتهميش كل ما عداها داخل بنية الدولة وسلطاتها ومؤسساتها العامة، وأن تمسك بالحكام بارانويا الخوف من المواطن والمجتمع على الرغم من أسوار القمع العالية التى يشيدونها لإخضاعهما والموارد الطائلة التى يهدرونها فى تزييف الوعى العام لمقايضة الناس بالخبز والأمن على الحق والحرية. لا يأمن حكام النظم السلطوية أبدا جانب المواطن، ويجعلون من «الاشتباه» فيه أساسا لتعقبه وتهديده بالقمع وتعريضه له. لا يأمنون أبدا جانب المجتمع الذى لا تنطلى عليه طويلا «ألاعيب» تزييف الوعى، وسرعان ما يظهر التململ من الظلم فالاستياء من المظالم فالمطالبة بمحاسبة المتورطين فالبحث عن بدائل أفضل لإدارة شئون البلاد.
غير أن الغريب بالفعل هو امتناع أغلبية مؤيدى الحكم فى مصر عن الربط بين إطلاق اليد القمعية باتجاه المواطن والمجتمع وبين الخروج على الإجراءات الديمقراطية فى صيف ٢٠١٣. بل إن بعض المؤيدين الذين انخرطوا فى دوائر «السلطوية الجديدة» سفهوا من التحذيرات العديدة التى سجلتها علنا قبل ٣٠ يونيو ٢٠١٣ بشأن خطورة استدعاء المكون العسكرى ــ الأمنى للتدخل فى إدارة الحكم والسياسة، وبشأن ضرورة ارتباط الحراك الشعبى ضد الرئيس السابق محمد مرسى بمطلب ديمقراطى هو الانتخابات الرئاسية المبكرة. ثم واصلوا هم وغيرهم ممن شاركوا فى صناعة الادعاء بديمقراطية «نظام ٣ يوليو ٢٠١٣» الاستهزاء بكل تنبيه لكون هيمنة المكون العسكرى ــ الأمنى لن ترتب سوى إماتة السياسة والمزيد من الممارسات القمعية (مهما حملت الدساتير من مواد حقوق ومن ضمانات للحريات) وتقنين للاستثناء (قوانين التظاهر والكيانات الإرهابية والجامعات وتعديلات قوانين العقوبات والقضاء العسكرى وغيرها) وإضعاف كارثى للمؤسسات العامة ذات الطبيعة المدنية وغير النظامية.
الغريب بالفعل هو أن أغلبية مؤيدى الحكم فى مصر لم تزل على رفضها لمراجعة الاختيارات التى تبنتها فى صيف ٢٠١٣ وما بعده، وتبحث عن صيغ بينية تمكنها من مواصلة التأييد مع معارضة المظالم والانتهاكات التى تراكمت على نحو لا يمكن إنكاره، من مواصلة التأييد مع تفنيد الكثير من السياسات الاقتصادية والاجتماعية التى لن تغير أبدا من واقع غياب التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية عن مصر (المشروعات الكبرى والاستثمار فى القطاعات غير الإنتاجية).
غير أن المطلوب من أولئك الذين يصطفون اليوم للدفاع عن الحقوق والحريات ويرفضون حكم الفرد هو مراجعة اختيارات «البدايات» فى صيف ٢٠١٣، والبحث فى سبل جادة لمواجهة السطوة الأمنىة على البلاد واقتناع الحكم بالانتصار على الرغم من الأزمة المستحكمة التى تعصف بمصر.