على الرغم من انهماكى فى تفاصيل السفر إلا أننى لم أنسَ أن أضع الكتاب بين أمتعتى. كانت أول مرة أسافر فيها خارج مصر فى إطار برنامج لتبادل الطلاب ألتحق فيه بمؤسسة لأبحاث الأدوية وصناعتها فى فنلندا فى فترة إجازة الصيف. لا أذكر عنوان الكتاب على وجه التحديد ولكنه كان واحدا من عشرات تتناول ما عرف اصطلاحا بـ«الشبهات حول الإسلام».
ككثيرين مثلى، سافرت إلى أوروبا محملا بـ«عبء الإنسان المسلم». رأيتها فرصة ذهبية لتصحيح «المفاهيم الشائعة والمغلوطة التى يحاولون بها تشويه الإسلام». مواجهة مع «الغرب» يقوم بها شاب أتى من كنف الحضارة «الحقة» والدين «الحق»، أقوم بها فى إطار مسئوليتى كمسلم عن العالم.
تصفحت الكتاب وتعرفت على أبوابه التى تغطى موضوعات متباينة مثل عدد زوجات الرسول، وموقف الإسلام من المرأة، وعدم تحريمه لتجارة الرقيق.
وصلت فنلندا والتحقت بالمؤسسة فى منتصف شهر رمضان. فى أول أيام العمل توجهنا للمطعم ساعة الغذاء. لاحظ جارى ورئيسى فى نفس الوقت، أننى لا آكل أو أشرب فأخبرته بأننى صائم. سألنى بعض أسئلة ظننت دافعها الفضول، فأسهبت فى الحديث عن حكمة الصيام، واختلاف شهر رمضان عن باقى الشهور، والدور الاجتماعى الذى يلعبه فى حياة الفرد والأمة. استحضرت فى ذهنى الخطوط الرئيسية لفهرس كتاب الشبهات فى انتظار طرحها ولكنه لم يسأل عنها.. فى نهاية اليوم، اقتربت منى فتاة المطعم باسمة وفى يدها علبة أدركت أنها إفطارى بعد عناء الصيام، وأن الرجل كان يسأل بدافع معرفة ما يمكن إعداده لى من طعام بما يتفق مع طقس الصيام وطعام المسلمين، وهو ما التزم المطعم بإعداده لى فى نهاية كل يوم من أيام الشهر.
فى نفس الرحلة الصيفية تعرفت بعائلة القس سيهفو الذى كان والدا لصديقة أحد زملائى. دعونى لمنزلهم أكثر من مرة فأصبحت صديقا للعائلة بكل أفرادها. كثيرا ما كنت أجلس مع العم سيهفو ويتطرق الحديث إلى الدين. لم يحدثنى الرجل عن «حلاوة البروتستانتية»، أو «الطريق البروتستانتى الحق» ولم يحاول «تنصيرى». كان يسأل فى هدوء ويستمع فى صبر، بينما أسهب أنا فى عرض منجزنا الحضارى والثقافى والتراثى المتفوق والفريد كما نحب أن نراه.
علمت لاحقا أننى كنت أجالس عالما يتقن إلى جوار لغته الأم: السويدية والإنجليزية والفرنسية والألمانية واللاتينية وأنه مرجع فى علوم اللاهوت فى بلاده. كان دائما يشكرنى لما «تعلمه منى»، دون أن يتطرق إلى الشبهات ودون أن أحتاج الكتاب للرد.
لم ألمس الكتاب منذ سافرت به. والسنوات التى عشتها خارج مصر أدركت فيها أن دينى وعقيدتى وشبهاتهما لا تعنى أحدا بالشكل الذى جبلنا على فهمه. وعندما تقع اليوم فى يدى مثل هذه الكتابات، أو أتصفح ما تحفل به منها مواقع مثل إسلام وب، أو الإسلام سؤال وجواب، أدرك أن خطاب «درء الشبهات» لم يكتب دفاعا عن الإسلام، بقدر كونه واحدا من آليات الهجوم على العقل. والمشكلة فيه ليست فى محتوى الردود ولكن فى سياقها الذى يجرم السؤال والسائلين بصياغات تكاد تكون ثابتة، تطعن فيهم وتشكك فى مراميهم وأغراضهم. فمن يطرحون هذه الاستفسارات ملحدون، وزنادقة، وكفار، وروافض على أقل تقدير!
تساؤلات تحريم الرق، والموقف من المرأة، وزيادة نصيب الرسول من الزوجات وهو الذى شرع التعدد وحدده بأربعة كلها تساؤلات مشروعة ومنطقية. وخطاب الشبهات ونسقه يؤسس لعدم مشروعية التساؤل والاختلاف والنقد والتفكير، ويمهد لقبول عام لرفض المختلف وتكفيره، بل وتوريطه إن أمكن فى جريمة ازدراء أديان تذهب به إلى غياهب السجون كما يحدث مع الشيخ محمد عبدالله نصر دون أى قدر من الاحتجاج أو الرفض.