نشر موقع 180 مقالا للكاتب حسين أيوب تحدث فيه عن استمرار رؤية حزب الله لنفسه كرادع لإسرائيل على الرغم من عدم قدرته حل المشاكل التى تواجهها لبنان.. نعرض منه ما يلى.
لم يأتِ خطاب الذكرى الـ 15 لحرب يوليو 2006، إلا انعكاسا للواقع اللبنانى الصعب، وبالمقابل، تضمن رسالة تحذير واضحة المعالم إلى إسرائيل بأن هذا الاستعصاء اللبنانى لن يغير حرفا واحدا من حروف توازنات الردع وقواعد الاشتباك التى أرسيت طوال 15 عاما.
بدت المشاهد متناقضة فى الذكرى الـ 15 لحرب يوليو. حزب لبنانى تجاوز حضوره حدود بلده وصار شريكا فى صياغة معادلات نوعية فى الإقليم، بينما يقيم على أرض رجراجة حبلى بالتناقضات السياسية والاجتماعية والطائفية، والتى معها يصبح رئيس الرابطة السريانية حبيب أفرام قادرا على مصارعة أعتى الطوائف وأكبرها فى لبنان.
هكذا أطل الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله فى لحظة لبنانية كانت مشبعة بالرمزيات اللبنانية، وأولها رمزية الصراع مع إسرائيل التى أعطت لحزب الله ومقاومته أبعادا غير مسبوقة فى تاريخ الصراع العربى ــ الإسرائيلى.. كنا أمام ضخ متدحرج لتقديرات إسرائيلية (مراكز الدراسات تحديدا) تشى أن حزب الله بات خارج الملعب واللعبة (مع إسرائيل) لانشغاله بأزمة لبنانية وجودية، وخرجت مقالات فى الصحف الإسرائيلية تتهكم على نصرالله وزعمه أنه «درع لبنان» و«حامى لبنان» بينما بات «مكتوف اليدين حاليا» بسبب الأزمة السياسية ــ الاقتصادية التى أعقبت لحظة 17 أكتوبر 2019.
من زاوية هذه التقديرات تحديدا، جاء الرد الإسرائيلى غير المسبوق منذ صيف العام 2006 بشن غارتين جويتين استهدفتا مناطق غير مأهولة بالسكان فى جنوب لبنان. ومثلما جرى نقاش فى العام 2014 حول كيفية الرد على غارة أوضح الإسرائيليون فى حينه أنها استهدفت قافلة لحزب الله فى منطقة حدودية فاصلة بين لبنان وسوريا، واقتضى وقتها أن يرد حزب الله فى مزارع شبعا (الملتبسة أيضا أقله بحسابات الإقليم)، فإن النقاش تكرر هذه المرة وكان القرار واضحا: ممنوع التفريط بأهم منجز تاريخى واستراتيجى أرسته حرب يوليو 2006 «وهو إيجاد ميزان ردع وضوابط وقواعد اشتباك ضامنة وحامية للبنان ورادعة للعدو»، على حد تعبير الأمين العام لحزب الله.
وعندما انطلقت بطارية صواريخ الـ 122 ملم من القطاع الشرقى فى جنوب لبنان باتجاه مزارع شبعا، استوجب ذلك دعوات عديدة أطلقها خبراء عسكريون ومراسلون عسكريون إسرائيليون لإجراء فحص معمق لطريقة تحليل المعلومات والتقديرات الاستخبارية، فلا قرار الرد كان متوقعا ولا الرصد الإسرائيلى المتعدد الوسائل استطاع تحديد مكان منصة الصواريخ لحظة إطلاقها أو خط انسحابها، وهذه النقطة أشار إليها نصرالله أيضا.
•••
«أنا أخشى أننا نقرأ الأعداء بحسب عالم الماضى الذى بيعَ لنا»، يقول الضابط السابق فى وحدة الأبحاث فى شعبة الاستخبارات العسكرية فى الجيش الإسرائيلى ميخائيل ميلشتاين، أى أن قراءة إسرائيل الوردية لأحوالها لا تلامس عمق التغيير الجذرى الذى يقوم به حزب الله فى لبنان وحركة حماس فى فلسطين المحتلة، ولا سيما عندما فاجأت الأخيرة الجيش الإسرائيلى بقرار استهداف مستوطنات القدس ردا على انتهاك المسجد الأقصى ومحاولات تهويد حى الشيخ جرّاح فى القدس أيضا فى شهر مايو الماضى. فى السياق إياه، قال المحلل العسكرى فى «هاآرتس» عاموس هرئيل إنه على الجيش الإسرائيلى «الحذر من الإدمان على مهرجان رواة القصص»، وهو الأمر الذى أثبتته حرب غزة الأخيرة، كما تقديرات الجيش الإسرائيلى الأخيرة بأن حزب الله أعجز من أن يرد على القصف البرى والجوى الإسرائيلى الأخير.
وعلقت القناة 12 التلفزيونية الإسرائيلية على إطلاق صواريخ حزب الله بالقول «إما أن إسرائيل تخدع نفسها عندما تقول إن حزب الله مردوع وإما أنها تدفن رأسها فى التراب»!.
باختصار، أظهر الميدان عدم رغبة الطرفين بدفع الأمور أبعد من حدود حاجة كل واحد منهما، فلا إسرائيل مستعدة لخوض حرب ولا حزب الله صاحب مصلحة فى هكذا حرب، وبالتالى، للطرفين مصلحة بالحفاظ على الستاتيكو.. ولو أن كل واحد منهما يريد أن يُفهم الآخر أن يده رخوة على الزناد، أى أن المبادرة بيده وليس بيد الآخر، بدليل إصرار نصرالله على إفهام الإسرائيليين أن الحساب ما زال مفتوحا معكم انتقاما لمقتل كل من على كامل محسن (سقط قبل سنة فى سوريا) ومحمد قاسم طحان (سقط عند الخط الحدودى بين لبنان وفلسطين المحتلة فى مايو الماضى).
لكن الأخطر من معادلة الردع هو ما جرى فى بلدة شويا فى قضاء حاصبيا. هذه هى المرة الأولى التى يعترض فيها أهالى قرية لبنانية حدودية مجموعة من المقاومين العائدين من عملية ضد الاحتلال. وهذه الرمزية خطيرة جدا، ذلك أنه حتى فى عز «فتح لاند» (منطقة العرقوب) وسيطرة منظمة التحرير الفلسطينية على الجنوب اللبنانى (منذ نهاية الستينيات وحتى العام 1982)، لم يتجرأ أحد من أهالى المنطقة الحدودية على اعتراض الفدائيين الفلسطينيين. وفى المرحلة التى أعقبت الخروج الفلسطينى من لبنان، جرت محاولات اعتراض مقاومين من قبل قوى حزبية محلية أو كان بعض العملاء فى القرى يمارسون فعل الوشاية بحق مجموعات من المقاومين كانت تختبئ داخل المنطقة المحتلة أو عند حدود تماسها مع المناطق المحررة.
طبعا ثمة سؤال يتصل بمن رسم للمقاومة هذا المسار للانسحاب من المنطقة عبر بلدة شويا، بينما لم يشهد الجنوب منذ سنوات ظاهرة تحرك مقاومين بهذه العلنية أو من داخل القرى، حتى فى عز حرب يوليو 2006، كان من الصعب على من صمدوا فى قراهم أن يرصدوا منصة صاروخية واحدة للمقاومين.
بكل الأحوال، ما جرى فى بلدة شويا خطير جدا برمزيته ودلالته وبما يثيره من حساسية طائفية. لقد سبق لقيادات سياسية لبنانية تقع فى صلب فريق 14 آذار (رحمه الله) أن كانت أول من بادر إلى محاولة كسر هيبة السيد نصرالله، غداة حرب العام 2006، وها هى أول محاولة اعتراض «أهلية» لمجموعة من المقاومين على أرض الجنوب.. هذا الأمر يحتاج إلى مقاربة هادئة وبلا انفعالات، لا سيما وأنه يتصل بشكل أو بآخر بحادثة خلدة التى حصلت قبل حوالى الأسبوع. يومذاك، قيل بأن إحدى أخطر دلالات هذه الحادثة أن عشيرة أو عائلة تستقوى على حزب الله بالثأر أولا لأحد قتلاها ومن ثم بارتكاب مجزرة خلال مسيرة تشييع، وهو الأمر الذى لم تشهد كل فصول الحرب الأهلية مثيلا له ولا حتى إسرائيل أقدمت على استهداف مسيرة تشييع فى أى منطقة لبنانية.
وهاتان الحادثتان (خلدة وشويا) يمكن التنطح لمعالجتهما بالأمن وهو علاج سيكون مكلفا وبلا نتيجة مضمونة، لكن الأهم معالجتهما بالسياسة لتفادى تكرارهما ولمنع دخول أى طابور خامس (داخلى أو خارجى) على خط الحساسيات اللبنانية (شيعية ــ سنية أم شيعية ــ درزية أم شيعية ــ مسيحية). هناك شق قضائى يقتضى الالتفات إليه لكن الدولة ليست ختما وبرنيطة غب الطلب. الدولة يجب أن تكون قوية وقادرة وعادلة.. وحتى تكون كذلك يجب أن تقوم بواجباتها أولا تجاه مواطنيها ومن ثم تطالبهم بما لها عليهم. بهذا المعنى، ثمة مساحة يجب إخضاعها للنقاش تتصل بدور المؤسسة العسكرية وبأدوار مؤسسات أخرى، خاصة وأن الإسرائيلى لن يفوت فرصة إلا ويتسلل منها لأجل تعديل قواعد الاشتباك فى الجنوب، ولذلك، سيتركز الضغط فى المرحلة المقبلة على محاولة إحراج الجيش اللبنانى فى منطقة جنوب النهر (شاهد ما شافش حاجه) واستخدام ما يحصل من تطورات ذريعة للمطالبة بتسيير مسيرات لقوات «اليونيفيل» فى سماء الجنوب اللبنانى، لأجل تجيير «داتا» معلوماتها للجانب الإسرائيلى.
•••
لقد طرح خطاب الأمين العام لحزب الله عناوين عديدة تحتاج إلى النقاش وأبرزها الدعوة إلى حسم موضوع طريق الساحل بين بيروت والجنوب، فضلا عن مقاربة ملف تفجير مرفأ بيروت للمرة الأولى بتفاصيل وضعها فى خانة «تسييس» الملف بامتياز. بدا واضحا أن ما كان حزب الله يخشاه يتحول إلى «مسلمات» فى أذهان رأى عام لبنانى عريض، وذلك عبر المزيد من «شيطنة» حزب الله واتهامه باستقدام نيترات الأمونيوم وتخزينها وتفجيرها وتحويل مرفأ بيروت إلى مخزن للترسانة الصاروخية للحزب. هذه «الشيطنة» تُعيد حزب الله إلى زمن العام 2005. بعد جريمة اغتيال رفيق الحريرى فى 14 فبراير، كان المطلوب من الحزب أن ينحنى للعاصفة الهوجاء التى أخرجت الجيش السورى من لبنان. مسار أدى إلى صياغة تحالف رباعى وأنتج أكثرية موصوفة لمصلحة فريق 14 آذار ورمى بالضباط الأربعة فى السجن لأربع سنوات، قبل أن يُعلن القضاء الدولى براءتهم، «فهل المطلوب هذه المرة تحويل دماء شهداء وجرحى انفجار مرفأ بيروت إلى منصة لاستهداف جهة لبنانية محددة وقوة دفع لمصادرة الأكثرية النيابية ورمى ضباط جدد فى السجن.. هذه المرة لن ينحنى حزب الله للعاصفة، ولن يهدى الأكثرية النيابية لأحد ولن يقبل بتوجيه الاتهام زورا إلى ضباط جدد وأولهم اللواء عباس إبراهيم. هذا شىء والمطالبة بالحقيقة فى ما جرى فى مرفأ بيروت شىء آخر»، يقول المقربون من حزب الله.
يحتاج خطاب السيد نصرالله فى موضوع مرفأ بيروت إلى مقاربة مستقلة، نظرا لحساسية الأمور التى أثارها وحساسيتها، ومنها إشارته للمرة الأولى إلى أن بيئة حزب الله نفسها «قد يكون لديها ملاحظات على أدائنا السياسى فى الداخل وعلى بعض تحالفاتنا السياسية وعلى بعض سلوكياتنا، ولكن فى مسألة المقاومة هذه بيئة مخلصة وفيّة»، وهذه الإشارة غير المسبوقة، ولا سيما فى قضية التحالفات، تفتح الباب أمام سؤال كيفية مواجهة طبقة سياسية تتحمل مسئولية تدمير الأرض التى يقف عليها حزب الله وبيئته؛ طبقة سياسية تمارس حدودا مستحيلة من الإنكار. الدليل الأخير هو السكوت المتمادى على ممارسات تشى بأن الحكومة اللبنانية ما زالت عالقة فى مربع التكليف.
مجددا حسان دياب سيكون رئيس جمهورية لبنان بعد انتهاء ولاية ميشال عون فى أكتوبر 2022.. هل هكذا يحمى حزب الله نفسه وبيئته وبلده.
النص الأصلى هنا