بروائع الموسيقى العالمية من سيمفونيات وباليه احتفلت دار الأوبرا بمرور سبعة وعشرين عاما على إنشائها كهدية من الشعب اليابانى فى عام 1989. أتت الدار الجديدة تعويضا عن القديمة، التى أنشأها الخديوى إسماعيل مع افتتاح قناة السويس فى عام 1869 واحترقت فى عام 71، ولم يبق منها سوى الميدان الذى يحمل اسمها فى حى الأزبكية، وجراج متعدد الطوابق انتصب فى موقعها!
منذ إنشائها، تحولت الأوبرا الجديدة إلى واحة نادرة للجمال، وملجأ لمحبى الفن والموسيقى، وسط طوفان من النشاز والتلوث السمعى والفكرى أغرق الفضاء العام.
حضرت احتفال الأوبرا بالحدث، واستمتعت بالغناء الممتع، والعزف البارع، وعروض البالية المبهرة، ولم أتمكن من التوقف عن التساؤل: ما الذى يمكن أن يحدث فى مصر لو تحول الاستمتاع بالفن والثقافة إلى عنصر رئيسى فى مناهج التعليم؟
كيف يمكن لهذه المتعة التى أعيشها وغيرى فى دار الأوبرا، أن تغير من سلوك المصريين، لو تعلموا تذوقها فى سن مبكرة؟
إلى أى حد يمكن أن يتأثر مستقبل تلاميذ المدارس فى مختلف محافظات الجمهورية، لو تلقوا حصصا فى آداب الاستماع والتلقى، متبوعة بزيارة أو زيارات لعروض فنية، يعيشون فيها تجربة ممتعة ترقى مشاعرهم وتزرع فى وجدانهم إلهاما تتوهج جذوته مع مرور السنين؟ بل وماذا لو نشرنا هذه المتعة بين جميع طبقات المجتمع؟
لن أبالغ إذا قلت إن المسألة تتجاوز الترف إلى الاختيار بين البقاء والاندثار. فقد شهدت مصر على مدى عقود، حربا على الثقافة والفن والذوق، واكبها إفساح الفضاء العام لثقافة الموت والقبح التى استوردناها من مجتمعات الجهل والتزمت، وتم الترويج لها فى دور العبادة ومحطات الإذاعة والتليفزيون. فانتشرت مظاهر التدين الشكلى والتطرف، مصحوبة بسلوكيات الفظاظة والفجاجة والقبح. وربما آن الأوان لندرك أن الحرب التى نقول إننا نشنها اليوم على الإرهاب، لا يمكن لها أن تنجح، لو لم نتمكن من دحر ثقافة الموت، بثقافة المتعة والحياة.
مكافحة الإرهاب و«الدواعى الأمنية» صارت مبرر الدولة لخنق مختلف المبادرات، بدلا من رعايتها وتنميتها. ألغيت هذا الأسبوع وعلى آخر لحظة مبادرة مدعومة من وزارة الشباب لممارسة رياضة الجرى عند سفح الهرم، وقبلها بأسبوعين، ألغيت فاعليات ورش تدريب إعلامى نظمتها هيئة التعاون الألمانية المصرية GIZ والتى تعمل فى البلاد منذ عام 1958، أما مبادرة «الفن ميدان» فتحتضر فى قبضة الأمن، فى وقت تحتاج فيه مصر إلى عمل منظم لنشر«الفن فى كل ميدان».
المصريون عطشى، بدليل النجاح الذى لقيته عروض الموسيقى والأوبرا التى قدمتها مبادرة محطات للفن المعاصر، بالتعاون مع فرقة تياترو للمسرح المستقل، فى مختلف المحافظات. والكرة الآن فى ملعب وزارة التعليم، لمد جسور التعاون مع وزارة الثقافة بما تديره من قصور ومسارح، وبالخبرات الموجودة فى دار الأوبرا، لإدخال مبادئ التذوق الفنى إلى مناهج التعليم نظرية وتطبيقا.
***
برقيات:
الصديقة الدكتورة إيناس عبدالدايم، رئيس دار الأوبرا، ومنها لكل العاملين والمبدعين والمتعاونين مع الدار: دمتم ودام إبداعكم.
شعب اليابان الشقيق: بالنيابة عن كل مصرى، هديتكم لنا صدقة دائمة وربنا يجعله فى ميزان حسناتكم.
المسئول عن بناء جراج متعدد الطوابق مكان الأوبرا القديمة: ربنا يجازيك، ويرزقك بحد يشغل أغانى نشاز بأعلى صوت تحت شباك بيتكم كل ليلة.