عن «أدب المقاومة».. المقاومة أدبا! - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الأحد 15 ديسمبر 2024 7:50 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن «أدب المقاومة».. المقاومة أدبا!

نشر فى : السبت 11 نوفمبر 2023 - 8:20 م | آخر تحديث : السبت 11 نوفمبر 2023 - 8:20 م

ــ 1 ــ
فى افتتاحية كتابها «لكل المقهورين أجنحة» الذى صدر بعد وفاتها تورد الراحلة رضوى عاشور هذه الحكاية: حكاية «لكل أبناء الرب أجنحة» من الحكايات المشهورة فى التراث الشعبى الإفريقى ــ الأمريكى، وهو تراث زاخر، أنتجه الأفارقة من موقعهم المستجد فى عالم حملوا إليه قسرا، ليبدأوا فيه حياتهم على خشبة المزاد، ومنها إلى المزارع للعمل سخرة تحت تهديد السياط. يبدأ الراوى الحكاية قائلا: «فى سالف الأيام كان لكل الأفارقة أجنحة، كانوا قادرين على التحليق كالطيور». ثم يحكى الراوى عن امرأة تعمل فى المزرعة ولم تتعاف بعد من الوضع. يصرخ وليدها فتجلس لترضعه. يضربها سائق العبيد. تقوم للعمل ولكنها تسقط من شدة الوهن. يضربها من جديد، هكذا حتى تتطلع المرأة لشيخ إفريقى من العبيد، وتقول له بلغة لا يفهمها سادة المزرعة: «هل حان الوقت يا والدى؟» فيجيب: «حان الوقت يا ابنتى». فإذا بالمرأة تطير بصغيرها، وقد نبتت لها أجنحة.
يتكرر المشهد مع عبد آخر، وحين ينتبه سيد المزرعة ونائبه وسائق العبيد إلى أن الرجل المعمر هو مصدر الكلمات التى تجعل العبيد تطير يهجمون عليه لقتله، ولكن الشيخ يضحك ويوجه كلامه بصوت جهورى لكل عبيد المزرعة. «وأثناء حديثه كانوا يتذكرون كل الأشياء التى نسوها، ويستحضرون ما كان لهم من قوة فقدوها. ثم نهضوا جميعا معا، العبيد الجدد والعبيد القدامى. رفع الشيخ يديه فقفزوا جميعا فى الهواء، وهم يهتفون فى صوت واحد. وفى لحظة كانوا يحلقون كسرب من الطيور... الرجال يصفقون والنساء يغنين والأطفال يضحكون... ولم يكونوا خائفين». وتعقب رضوى عاشور على هذه الحكاية الرمزية العميقة بقولها: «ليست هذه مجرد حكاية أنتجتها المخيلة الجماعية للعبيد الأفارقة، فيما عرف لاحقا باسم الولايات المتحدة الأمريكية، تصور واقعهم، وتكسر طوقه، وتوسع عبر الخيال حدود عالمهم، فتعيد لهم الثقة فى قدراتهم الإنسانية، ولكنها أيضا حكاية نموذجية تلتقط قانونا من قوانين النضال الشعبى من أجل التحرر، حيث «الذاكرة» شرط من شروط هذا الفعل التحررى. أتابع تفاصيل الانتفاضة الفلسطينية، فى الضفة الغربية وقطاع غزة وفلسطين المحتلة منذ عام 1948، أعود لهذه الحكاية. أتمتم: لكل المقهورين فى الأرض أجنحة».
ــ 2 ــ
تصلح هذه الأمثولة الرائعة البديعة كى تكون شعارا وعنوانا ولافتة عريضة لبحث موضوع «المقاومة» فى ذاكرة التراث الإنسانى كله، وكل كتابة أصيلة تدق على وتر الوجع الإنسانى والمأساة الإنسانية هى فى النهاية فعل مقاومة لا ينتهى، ولا يفتر ولا يموت، وقد حاز فعل المقاومة حضورا فى الإبداع الروائى العربى بصورة لافتة طوال تاريخها.
إن قيمة الرواية؛ أية رواية، لا تنبع مما فيها من تشويق فحسب، وإنما من كل ما يضاف إلى هذا التشويق من رؤية جمالية وإنسانية، توازى الواقع الذى نعيشه، وتتولى تجسيده فى بناء فنى، يتولى تعرية مثالب هذا الواقع، ويكشف عن مساوئ قبحه وفساده، فيدفعنا إلى المزيد من الوعى به، بل والتمرد على كل ما فيه من فساد سياسى، وتدهور اجتماعى، وتطرف دينى، وتأزم اقتصادى، واختلال قيم، ولكن بما لا يدفعنا إلى الهروب من هذا الواقع، بل مواجهته بالوعى، و«مقاومته» بالقيم التى لا يزال هذا الواقع يتخلى عنها.
لهذا يمكن القول أيضا بأن فكرة «الحرب» و«المقاومة» قد فرضت نفسها على الروائيين العرب على اختلاف توجهاتهم ومشاربهم، واستطاعت أن تخلق عددا وفيرا من الروايات الخاصة بها. هذه الروايات لها أهميتها ودلالاتها من حيث العدد والتنوع فى الموضوعات والرؤى، ومن حيث الأساليب والأشكال والمستوى الفنى والمستوى الجغرافى، وهو موضوع ثرى غاية الثراء، وفى حاجة إلى دراسات ومعالجات من منظورات مختلفة.
ــ 3 ــ
هذا على مستوى الإبداع، أما على مستوى النقد والدرس الأدبى فقد نال موضوع «أدب المقاومة» اهتماما لافتا فى نقدنا العربى المعاصر، صحيح أنه كميا لا يقاس بموضوعات ومضامين أخرى (على مستوى الدراسات التى أنجزت داخل الجامعة أو خارجها) إلا أنه نوعيا وكيفيا راكم عددا من الكتب والمؤلفات التى أراها فى غاية الأهمية وإن توارت قليلا عن الذاكرة لبعد العهد بيننا الآن وبين صدورها فى طبعاتها الأولى.
من أشهر هذه الأعمال كتاب «أدب المقاومة» للراحل غالى شكرى الذى صدر عن (مكتبة الدراسات الأدبية) بدار المعارف فى ستينيات القرن الماضى (وبالتحديد بين عامى 1968 و1970 ولاحظ دلالة التاريخ الذى جاء بعد هزيمة 5 يونيو بسنة واحدة أو اثنتين). وهناك الكتاب المنسى «شخصيات من أدب المقاومة» للناقد الراحل سامى خشبة الذى صدر فى طبعة وحيدة عام 1996 فى مشروع مكتبة الأسرة المصرية (إبان ازدهارها وتألقها) ولم يظهر تاليا فيما أعلم حتى وقتنا هذا! وهناك الكتاب الذى أشرنا إليه فى مطلع هذا المقال للراحلة رضوى عاشور، وهو بعنوانه وفصوله وشهاداته تنويعة من تنويعات المقاومة بالكلمة والدراسة والشهادة والتحليل!
ومن قبل هذه الكتب جميعا كان كتاب «نماذج بشرية» للناقد العظيم محمد مندور مغردا وحده فى فضاء النقد الأدبى بتناولاته العميقة ومعالجته الساحرة لنصوص من كلاسيكيات الأدب العالمى وروائعه عبر العصور متوقفا عند شخصيات ونماذج مثلت أنصع ما فى أدب المقاومة من نبل وإنسانية وبطولة وخلود!
ــ 4 ــ
هذه مجرد إشارات سريعة لحضور قيمة «المقاومة» فى إنتاجنا النقدى والفكرى المعاصر، وكل منها يستحق وقفة متأنية، فى مقالات تالية، لعرض أبرز وأهم الأفكار التى تضمنتها هذه الكتب، والنصوص الروائية والقصصية والمسرحية التى عالجتها، إنها قراءات جديرة بالنظر الآن، وجديرة بالحضور الآن، وجديرة باستلهامها والانطلاق منها وتجاوزها فى قراءات راهنة.. (وللحديث بقية)