إذا نزلت إلى الشارع وسألت أول من تقابل عما يهتم بمتاعبته في التليفزيون أو الصحف أو الإنترنت فغالباً سيكون الجواب كرة القدم أو الأخبار الفنية، من يحب القراءة غالباً سيتابع ما يصدر من روايات جديدة، لكن ما هو الذي يؤثر فعلياً على حياة الناس؟ يتأثر الناس بأسعار السلع المهمة بالنسبة لهم أو الخدمات المقدمة لهم مثل المواصلات والمرافق ... إلخ... ألا ترى معي أن هناك ظاهرة تستلزم النظر والدراسة؟
هذه الظاهرة توجد في جميع دول العالم تقريباً، هذه الظاهرة هي وجود فجوة كبيرة جداً بين ما يهتم به الناس ومصحلة الناس فعلياً!
هناك عدة تفسيرات لذلك: منها مثلاً أن الناس التي تعيش في ضيق وتعب في هذا العصر الذي يلهث فيه الجميع من أجل قوت اليوم تحاول التغلب على ذلك التعب بما يرفه عنها مثل الأفلام والأغاني والمباريات الرياضية، سبب آخر هو أن ما يرتبط بمصالح الناس عادة معقد وليس من السهل على الشخص العادي الإلمام بجميع جوانبه مثلاً إرتفاع سعر الدولار يعتمد على قوة العملة المحلية بالنسبة للدولار وتلك القوة تعتمد على عوامل عدة منها الاقتصادي ومنها السياسي ...إلخ، الإلمام بذلك يستلزم متابعة الموقف العالمي السياسي والإقتصادي وحتى البيئي والإلمام بمبادي السياسة والإقتصاد والعلاقات الدولية ورجل الشارع العادي في أي دولة لا وقت ولا جهد ولا حماس لديه بعد يوم عمل طويل لمتابعة كل ذلك، تفسير آخر هو أن رجل الشارع غالباً ما يجد في المعلومات التي تمس مصلحته ما يغضبه فالعالم الي نعيش فيه ملئ بالمشكلات مثل الفساد وسيطرة فئة قليلة على معظم الثروات سواء على مستوى الأفراد أو مستوى الدول.
الآن وبعد أن تكلمنا عن تلك الظاهرة وحاولنا تفسيرها نأتي إلى سؤال مهم: هل هذه الظاهرة تعتبر مشكلة؟ الحقيقة أن هذه الظاهرة ليست صحية لأن عدم الاهتمام بما يؤثر على مصلحتك يجعلك عرضة للمفاجأة عندما يحدث شيء يؤثر عليك وتكون عرضة للغضب لأنك لا تعلم السبب في ذلك ولم تستعد له، وهي ظاهرة ليست صحية لأنها تعود الناس على إخفاء رؤوسهم في الرمال بدلاً من التركيز على المعلومات التي تؤثر على حياتهم، وهي ليست ظاهرة صحية لأنها تعود الناس على عدم التفكير العلمي ... وهي النقطة التي جعلتني أتحدث عن هذه الظاهرة... هنا يأتي دور العلم.
تحدث كاتب هذه السطور في عدة مقالات سابقة عن أهمية الصحافة العلمية وأهمية توصيل العلم للعامة، إذا تمكنا من جعل القارئ العادي يقبل على قراءة موضوعات تمس حياته مثل النظم المالية أو قضايا البيئة أو طرق الحياة الصحية فستكون هذه هي اللبنة الأولى نحو بناء شخص يفكر تفكيراً علمياً وبالتالي سيكون شخصاً مستعداً لمواجهة مشكلات الحياة بفاعلية أكبروسيكون شخصاً صديقاً للبيئة ولا يسرف في استخدام المياه مثلاً أو الكهرباء وسيحرص على صحته وصحة عائلته و سينشأ جيل محب للعلم وبالتالي نسير على الطريق الصحيح لنكون من الدول العظمى فالعظمة تأتي من العلم والتعليم وليس فقط من المال والمصادر الطبيعية فاليابان مثلاً ليس لديها مصادر طبيعية مثل كثير من الدول الأضعف منها لكنه العلم... لكن كيف نبدأ؟
البداية هي تنشئة صحفيين قادرين على تبسيط المعلومات المعقدة، هذه أول خطوة، الخطوة الثانية هي تقديمها بطريقة شيقة لأن البساطة وحدها لا تكفي، المبارايات الرياضية شيقة فلكي تكون للكتابات العلمية فرصة للمنافسة يجب أن تكون شيقة أيضاً، الخطوة الثالثة هي إختيار موضوعات تمس حياة الناس بطريقة مباشرة، الخطوة الرابعة هي إعطاء كل ذلك لرجل الشارع عن طريق جميع الوسائط المرئية والمسموعة والمقروءة لأن هناك من لا يحب أو لا يعرف القراءة فيجب أن نصل إليه بطرق أخرى، الخطوة الخامسة وهي من أهم الخطوات هي وجود مجموعة من العلماء المهتمين بتوصيل العلم للعامة، هناك علماء بارعون في علمهم ولكن لا يحسنون التحدث للعامة وهناك كتاب بارعون في الكتابة ولكن معلوماتهم العلمية ليست بالقوة الكافية لذلك نحتاج حلقة وصل تصل هؤلاء بهؤلاء.
أتمنى أن نحرز تقدماً في هذه الخطوات وبهذا نبني مجتمعاً علمياً واعياً ونغلق تلك الفجوة الهائلة بين ما يهتم به الرأي العام وبين مصلحة الرأي العام.