خلال النصف الاول من التسعينيات صعد نجم الفنان محمود حميدة وأصبح القاسم المشترك الأعظم لغالبية الأفلام التى كانت تنتجها السينما المصرية آنذاك.
كان حميدة يقبل بأدوار كثيرة أقل من طموحه، إلا أنه استجاب لشرط السوق وجنى الكثير من الأموال التى أنفق معظمها على الفن وربط حضوره فى المجال العام بمسارين أساسيين، تمثل الاول فى خوض تجارب إنتاجية مغامرة رافعا شعار: «ما يأتى من السينما لابد وأن يستثمر فيها» وساعده ذلك على ان يمضى بتوازن بين شرط السوق، وأفق المغامرة الذى تمناه.
وبعد مضى الكثير من السنوات لا يزال محبو السينما يذكرون له بامتنان كبير تجربته فى اصدار مجلة «الفن السابع» التى كانت أول مجلة متخصصة فى السينما تصدر عن شركة إنتاجية خاصة وعلى الرغم من خسائرها المالية التى امتدت لسنوات إلا أنها ظلت تجربة فريدة.
وعبر صفحاتها لمعت مواهب صحفية وأسماء نقدية مهمة تمثل اليوم الهيكل الرئيس للحركة النقدية فى مصر ويفخر أصحابها بأن انتاج أغلبهم ظهر للمرة الأولى على صفحات «الفن السابع».
وبكل الخير نتذكر تجربة حميدة فى إنتاج فيلمين استثنائيين هما «عفاريت الأسفلت» و«جنة الشياطين» قدم عبرهما كاتب متميز مثل مصطفى ذكرى ومخرج كبير مثل الراحل أسامة فوزى.
وما يهمنى اليوم هو التذكير بالمسار الثانى فى تجربة حميدة الذى اختار فى ذروة تألقه أن يعيد تأهيل نفسه كممثل وضرب بشروط النجومية الزائفة عرض الحائط.
خاض الفنان الكبير تجربة فريدة فى التعلم وانخرط فى الكثير من ورش اعداد الممثل ورعى واحدة منها مع الدكتور محمد عبدالهادى ورأيناه وهو يتلقى تدريبات بدنية وذهنية كانت بمثابة زاد كبير أعانه على إدارة موهبته وصيانتها باحترافية نادرة بل ظل يعزز معارفه بصداقات متنوعة ودراسات لعلوم أخرى فى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا.
ربما بفضل تلك التجارب التى خاضها فى الفن والحياة تحول «حميدة» إلى «أيقونة» واستعمل موهبته بطريقة صحيحة وصانها تماما وأصبحت مثل كل شىء «عزيز».
ولعله تعلم من شيخه ومعلمه الأول الشاعر الراحل فؤاد حداد «درس الاستغناء» وفهم أن فى الاستغناء قوة، وهو فى ذلك على عكس الكثير من النجوم الذين تابعنا بعضهم فى مسلسلات رمضان وشهدنا جميعا «انطفاء» لمعتهم الزائفة، بعد أن اكتفوا بالشهرة وبالمال وتوقفوا عن تطوير أدواتهم وتحولوا إلى «جوقة للوعظ» والارشاد، مرة باسم الوطنية ومرات باسم الدين والأخلاق.
وبتعبير الكاتبة الكبيرة فاطمة المعدول، فقد أفرط هؤلاء فى «إهانة الموهبة» وتبنى الخيارات السهلة التى حرمتهم «لذة المغامرة» التى تنقلهم كما تنقل مشاهديهم إلى ضفاف أخرى وتمدهم بمياه الحياة، إنها اللمعة الصادقة التى تهبها «لؤلؤة البحث عن المستحيل».
أيها الأعزاء.. افتحوا شاشات التلفزيون وتأملوا التعويض الذى يمنحه الزمن لأصحاب المواهب الجديرة بالبقاء، انظروا لأسماء ظلت فى الظل، لكنها قاومت سوء الحظ، وناضلت طويلا ليصلها (الضوء المستحق) الذى يجعل جواهرها تلمع أكثر فأكثر.
انظروا لمسيرة عبدالعزيز مخيون، ورياض الخولى، أحمد كمال، محمود البزاوى، سامى مغاورى، صبرى فواز، لبنى ونس، حنان مطاوع، سما إبراهيم، وطارق لطفى وقارنوا مواهبهم بأسماء أخرى أعطاها الجمهور ظهره أخيرا ونزع عنها أقنعة كثيرة وحولوها إلى مادة للسخرية على مواقع التواصل الاجتماعى.
إنه درس جديد جدير بالتأمل، فالموهبة لا تعامل معاملة القلم الرصاص بحيث تستهلك فى (براية السبوبة) عمال على بطال، بل ينبغى أن نعاملها كما نتعامل مع قلم حبر أبنوسى نادر، كلما فرغت أنبوبته ملأناها بحبر المغامرة.
إنه درس آخر من فؤاد حداد الذى كتب (أترن.... الفن
ماهوش ساهل / طيره ما يحطش على جاهل / طيره مايحبش متساهل / متجاهل ذاهل متراهل /أترن الفن.... ما هوش ساهل).