الفضاء المعتم - سامح فوزي - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 7:00 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الفضاء المعتم

نشر فى : الأربعاء 12 أغسطس 2015 - 7:35 ص | آخر تحديث : الأربعاء 12 أغسطس 2015 - 8:25 ص

نبتعد قليلا عن السياسة

منذ عقد من الزمن نتحدث عن القرية الكونية، التى تعرف أرجاؤها المترامية حال بعضهم بعضا. رافق ذلك أمرين: الأول: تنميط استهلاكى مكثف فى الملابس، الطعام، طرائق الحياة. وشكلت كبرى الشركات العالمية عنوانا للمجتمع الاستهلاكى، تجد بضاعتها فى كل مكان، بنفس أسلوب العرض. الأمر الثانى: ثورة الاتصالات، وشكل «الانترنت» عنوانها الأساسى، وبالأخص أدوات التواصل الاجتماعى، وفى مقدمتها «الفيس بوك»، الذى يقوم على شبكة هائلة من الصداقات المتقاطعة، وإمكانيات هائلة للتعارف الإنسانى، وتبادل الأخبار، والصور، وأحوال الحياة فى تدفق هائل لا ينقطع.

السؤال هل نزداد تباعدا أم تقاربا؟

الإجابة هى «التباعد». هناك أبحاث تشير إلى أن التواصل مع الشاشة – أيا كانت الكترونية أو فضائية يخصم من رصيد التلاقى الاجتماعى. الحديث بالأرقام والاحصاءات فى ذلك كثير، ومتجدد، حتى ما يٌطلق عليه «صداقات» تخلو من المضمون الإنسانى الذى تقتضيه هذه «الكلمة». الصداقة تعنى التعارف العميق، والتواصل المستمر، والمعرفة المتبادلة، هل يمكن أن تكون هناك صداقة حقيقية بين شخصين، يرحل أحدهما عن العالم، ولا يدرى صديقه ما حدث؟ قد يحدث ذلك فى العالم الواقعى فى ظروف غير طبيعية. فى عالم «الفيس بوك» هذا أمر جائز جدا. فى أحيان كثيرة ألاحظ أن شخصا رحل عن العالم، وتبقى صفحته قائمة فى الفضاء الالكترونى يتلقى عبرها رسائل تهنئة بعيد ميلاده، ممن يوصفون بالأصدقاء. فى عالم الانترنت تغير مفهوم الصداقة، صارت مجرد تسجيل بالدخول إلى عالم الشخص الآخر، لا غير. نسمع كثيرا من يقول إن الانترنت وفر لك إمكانية الصداقة العابرة للدول والقارات، هذا صحيح، لكنه بالتأكيد قد يحرم الإنسان من صداقة حقيقية فى الحيز الاجتماعى الذى يعيش فيه.
قس على ذلك تغير اجتماعى عميق يحدث، ولا ندرى به.

الفضاء الالكترونى الذى يعطى الانسان ميزة «الشفافية»، والتعرف على الحدث لحظة حدوثه، وتبادل الرأى مع غيره، يحرمه من التبادل العميق لوجهات النظر، ويصبح الأمر مجرد رسائل قصيرة، لا أكثر، لا تعين على تكوين وجهة نظر، بل تخلق وتمدد وتنشر الاستقطاب، وأحيانا الخصومات.

بالتأكيد ثقافة الدول تتجلى فى مراسلات أبنائها. فى دول متقدمة تجد النقاشات عبر شبكات التواصل الاجتماعى عميقة، بلغة منضبطة مهذبة، أما فى الدول التى تشهد تراجعا فى التعليم والثقافة مثل مجتمعنا، نجد «الفيس بوك»، والتعليقات على الأخبار والمقالات التى تنشرها المواقع الالكترونية مجرد مساحة تنفيس عن غضب، وكراهية، وعنف لفظى، واستقطاب، كما لو أن الحوار ببذاءته انتقل من الشارع إلى الشاشة، يتراجع الصوت الهادئ العاقل، ويغلب الضجيج والغضب والبذاءة.\

كل ذلك يحملنا إلى القضية الأساسية التى يتداولها الباحثون فى علم الاجتماع عن «الحداثة». المسألة ليست حداثة شكلية فى صورة مبان وأجهزة كمبيوتر وانترنت وسيارات فارهة ومولات، الخ، لكنها حداثة القيم والمعانى وطرائق التعبير.

لم أعد أستغرب عزوف البعض عن الفضاء الالكترونى، الذى لم يعد سببا فى المعرفة، بقدر ما هو مظهر من مظاهر تخلف المجتمع، وتراجعه على سلم التطور الانسانى الحقيقى.

سامح فوزي  كاتب وناشط مدني
التعليقات