إذا سألت هذا السؤال (الذي سألناه في مقال سابق ومررنا عليه مرور الكرام لأنه لم يكن نقطة المقال الأساسية) لمن يعمل في المجال الأكاديمي فغالباً سيجيب بالإيجاب ففي النهاية هو يعمل في هيئة "التدريس"! ولكن عندما تسترسل في الحديث مع هذا الشخص تكتشف إما أنه لا يحب التدريس ولكنه محرج ولا يصرح بذلك لأنها مهنته أو أنه يقصد بالتدريس إلقاء المحاضرات فقط ... ما أهمية مناقشة مهنة التدريس الآن؟ وماذا نقصد بالتدريس؟ ... هذا ما سنناقشه اليوم.
دائما ما نتكلم عن أهمية العلم والبحث العلمي لتقدم البلاد وقد قلنا مراراً أنه لا تقدم بدون تعليم فلا إقتصاد ولا أمن ولاتخطيط للبنية التحتية ...إلخ تكفي لتقدم أية دولة إذا لم يتوفر التعليم لأن الاقتصاد والأمن والتخطيط أنفسهم ما هم إلا مجموعة من العلوم فإذا قلنا أن التعليم أمن قومي لا نكون مبالغين.
يجدر بنا هنا أن نقول أن التعليم لا يعني الشهادة الجامعية أو المدرسية، فكم من حاصل على الثانوية العامة أو الإعدادية ولا يعرف حتى أن يكتب جملة بدون أخطاء أو أن يكتب أصلاً!! وكم من حاصل على بكالوريوس أو ليسانس أو ماجستير ومعلوماته ضحلة للغاية في تخصصه ناهيك عن التخصصات الأخرى أو الثقافة العامة ... وكم من حاصل على الدكتوراه ولم يحصل منها إلا على "الدال نقطة"!
لتدارك هذه الكوارث التي ذكرناها في السطور القليلة الماضية والتي تهدد أمننا القومي (تخيل مثلاً تعيين شخص حاصل فقط على "الدال نقطة" في منصب هام وهو لا يعرف شيئاً!) وتقدم بلادنا يجب أن نهتم ليس فقط بالتعليم ولكن بالبعد الاجتماعي أيضاً ... ماذا نقصد بالبعد الاجتماعي؟ نقصد أننا يجب أن نكف عن كوننا "بلد شهادات" (ومنظومة "خد شهادتك الأول وبعدين إعمل اللي إنت عايزه"!) ويجب أن نكف عن مفهوم "كليات القمة" وهذه مشكلات في منتهى الصعوبة وسنفرد لها مقالات منفردة في المستقبل إن شاء الله وسنركز اليوم على أهم جزء من التعليم وهو التدريس (كنا قد قسمنا في مقالات سابقة التعليم إلى ثلاثة أجزاء: الطالب والمدرس والإدارة).
توجد الكثير من المشكلات التي تواجه من يقوم بمهنة التدريس منها مثلاً عدم وجود خبرة كافية للتعامل مع الطلاب (أو التلاميذ إذا كنا نتحدث عن التعليم المدرسي) ومشكلاتهم، لكل طالب شخصية مختلفة ولكل منهم طريقة مختلفة للتعلم وطريقة مختلفة لإجتذابه للتعلم وهذا يقتضي خبرة من المدرس في سيكولوجية التعليم، على المستوى الجامعي: هل تكفي دورات إعداد المعلم (وهي من متطلبات الترقية في الجامعات المصرية الحكومية) لإعطاء هذه الخبرة؟ أعتقد أنها لا تكفي (كاتب هذه السطور قد أخذ بعض هذه الدورات) ولذلك يجب أن تكون هناك وحدات استشارية من كليات التربية لمساعدة أعضاء هيئات التدريس في الجامعات على التعامل مع الطلاب، وحيث أن الشئ بالشئ يذكر فدعنا ننظر إلى خريجي كليات التربية، كليات التربية لا تعد من كليات القمة عندنا (منظومة "كليات القمة" مرة أخرى) ومن يدخلها يكون عادة من الذين لم يحصلوا على مجموع في الثانوية العامة تدخله إحدى كليات القمة فيدخل هذه الكلية مجبراً ويدرس ما لا يحب (إلا قلة قليلة ممن يحبون التعليم ودخلوها بإرادتهم) فهل تظن أن هذا الخريج سيبدع في عمله؟
مشكلة أخرى تواجه من يعمل بمهنة التدريس وهي مشكلة إقتصادية من الدرجة الأولى: المرتبات! مع موجات ارتفاع الأسعار وعدم زيادة المرتبات بنفس النسبة يحدث شيئان: زيادة جرعة السخط عند الأكاديميين مما يؤثر على عملهم وقدراتهم على الإبداع فيه والشئ الثاني هو الإتجاه للدروس الخصوصية ففي النهاية المدرسون لهم عائلات وعندهم مصاريف، السؤال المهم: إذا كانت ميزانية الدول لا تسمح إلا بزيادة مرتبات بعض الفئات فهل أساتذة الجامعات سيكونون من هذه الفئات؟ وهل ستزيد مرتباتهم بنفس نسبة فئات أخرى؟
هناك نظرة مجتمعية لمن من يقوم بالتدريس على أنه أقل ممن يقوم بالبحث العلمي ولذلك تجد أغلب الأكاديميين يبذلون مجهوداً في البحث العلمي أكثر بكثير من التدريس لأنه بخلاف النظرة المجتمعية فإن البحث العلمي يحتل مرتبة أعلى عند تقييم ملف الأستاذ الجامعي من أجل الترقية ونحن نسلك بذلك مسلك الجامعات في الدول الغربية ... ولنا هنا وقفة وسؤال مهم: ما هو الأهم بالنسبة لمصر الأن: التعليم أم البحث العلمي؟ طبعاً الإجابة المعلبة أن الإثنين مهمان ولكن لنكن واقعيين: في الحالة الاقتصادية الصعبة التي تواجهها البلاد يجب أن نختار وأعتقد أن الإختيار الأصح حالياً هو التعليم وهذا يشمل التعليم الجامعي، طبعاً لا نستطيع تجاهل البحث العلمي ولكن هناك مراكز بحثية كثيرة (المركز القومي للبحوث مثلاً) وهي تركز على البحث العلمي وهناك طلاب الدراسات العليا وهو يعملون في الأبحاث فلنجعل العملية التعليمية هي الأساس في جامعاتنا ويكون التدريس هو المعيار الأول في الترقية حتى تخرج أجيال متعلمة تعليماً جيداً وعندئذ فقط نبدأ بزيادة جرعة البحث العلمي المطلوبة عند ترقية الأكاديميين ... قد يقول قائل أن هذا سيؤثر على تصنيف جامعاتنا، الرد على ذلك هو أن هناك تصنيفات للجامعات التي تركز على التدريس فقط (مثل هذا).
مراكز الأبحاث وطلاب الدراسات العليا ستكون ملقاه على عاتقهم مهمة البحث العلمي حتى يخرج جيل جديد.
نقطة أخيرة وهي ما نقصده بالتدريس لأن من يتكلم عن التدريس يقصد في أغلاب الأحيان إلقاء المحاضرات وهي جزء من عدة أجزاء في عملية التدريس، الأجزاء الأخرى تتمثل في: وضع المناهج ووضع الإمتحانات والمشاريع ووضع اتراتيجية التصحيح والتعامل مع الطلاب بإختصار هي عملية معقدة أكثر من مجرد إلقاء محاضرات ...
أثناء مروري على المكتبات في رحلة شراء كتب والتعرف على الكتب الجديدة سعدت بوجود كتاب نشره المجلس الأعلى للثقاقة بعنوان "تكريم رواد التربية" وهو عبارة عن مجموعة أبحاث كل بحث عن شخص كانت له بصمته في العملية التعليمية في مصر، هذا الكتاب نُشر في مارس 2008 ولكني لم أكتشفه إلا في 2017 للأسف ... فتحية للمجلس الأعلى للثقافة عن هذا الكتاب وتحية لكتاب تلك الأبحاث.
والآن: هل تحب التدريس؟