كان الإيطالى «كارلو بونزى» قد هاجر إلى الولايات المتحدة فى عام 1903 واستقر فى ولاية بوسطن حيث عمل نادلا بأحد المطاعم، ثم طرد منه لسوء سلوكه، فانتقل إلى كندا ليتورط فى عملية نصب، سجن على إثرها بعض الوقت، ليخرج من السجن قاصدا بوسطن مرة أخرى، ولكن هذه المرة تمكن من إقامة نموذج هرمى قوامه الاحتيال، عرف بعد ذلك باسم نموذج «بونزى».
النموذج يقوم على سلسلة من الاستثمارات المتراكمة، حيث يجمع «بونزى» مبالغ من المستثمرين الحالمين بالربح السريع، ويعد ضحاياه بنسبة فوائد كبيرة على الاستثمارات التى يقومون بها، ليدفع هذه الفوائد من المبالغ التى يودعها المستثمرون الجدد لديه، حتى يصبح عدد المستثمرين القدامى أكبر من المستثمرين الجدد، فينهار النموذج.
وكان بونزى قد استلهم فكرته تلك من «ويليام ميلر» الذى قام بنفس السلسلة وجمع مليون دولار، بالإضافة إلى المقامر «تشارلز ويلس» الذى قامت بسببه الحكومة الفرنسية بوضع قيود على البنوك، حيث قام بإنشاء بنك فى باريس عام 1910 واعدا المودعين بنسبة فائدة 365% عن كل عام، أى ما يعادل 1% عن كل يوم!.
انتشر هذا المخطط الاحتيالى حول العالم وتطور بشكل كبير ومعقد على مر السنين، وراهن منفذوه دائما على «جشع» ورغبة الضحايا فى تحقيق الثراء السريع، من هؤلاء «برنى مادوف»، الرئيس الأسبق لبورصة ناسداك، والذى يعد العقل المدبر لأكبر عملية نصب فى التاريخ، جمع من خلالها ما يقرب من 65 مليار دولار، مستهدفا ضحايا من عشرات الدول حول العالم. وبعد أن اكتشفت ألاعيبه، تم ضبطه وحكم عليه فى عام 2009 بالسجن لمدة 150 عاما، وهناك توفى فى 14 أبريل عام 2021 عن عمر ناهز 82 عاما.
• • •
تتعدد مظاهر هذا النموذج فى كل مناحى الحياة، لم تعد قيمة الأشياء أمرا حاسما فى تحديد ما تستحقه من إيراد أو عائد مادى. إنك تندهش لهذا الشاب الذى يقدم ضجيجا فى صورة غناء لأوزة ضاعت منه، فراح يبحث عنها ناعقا فى الشوارع، ثم تعجب كيف يتحول هذا العبث المقزز إلى مقطع مسجل يملأ مواقع التواصل الاجتماعى بزخم وعدد من المشاهدات يتخطى كل معقول! ثم ها أنت تحرث أرضك أو تبنى مصنعك ولا تحلم بتحقيق ربع العائد الذى يمكن أن يدره عليك عمل ردىء كهذا، لمجرد أنه نجح فى تعبئة عدد كبير من الناس لمشاهدته.
ولا تكاد تصدق أن رجلا اسمه «المستريح» يتحول اسمه إلى ظاهرة فى صعيد مصر، ثم فى مختلف الأرجاء وخاصة المناطق الريفية، لكثرة من ساروا على نهجه الساذج للإيقاع بضحاياهم من الطامعين فى الربح السريع. يكفى أن تعلن للناس أنك تملك أن تدفع لهم عائدا أكبر من البنوك، فيظن أمثلهم طريقة أن بيدك عصا سحرية لتحقيق الربح السريع، ويساعد على نشر تلك الخرافات التزامك بسداد الفوائد بادئ الأمر، وبالطبع لا يتم السداد من توظيف الأموال فى أى نشاط، وإنما يدفع «المستريح» لضحاياه فوائد وأرباحا من رءوس أموالهم مباشرة، ويساعد توافد الضحايا الجدد فى إعادة تعبئة وعاء الفوائد بشكل مستمر، بما يجعل «المستريح» مستريحا فى سداد التزاماته الشهرية، حتى يقل تدفق الأموال الجديدة فيبدأ التعثر، وعادة ما يهرب المحتال بما تجمع لديه من رءوس أموال قبل بلوغ مرحلة الانكشاف.
الاتجار فى العملات المشفرة لا يخلو من شبهة محاكاة لنموذج أو سلاسل «بونزى» نظرا لأن تضخم قيمة العملة يأتى من توافد المشترين الجدد باستمرار، بما يسمح لقدامى المشترين بالتخارج بعائد متميز من خلال البيع فى السوق. وإذا كانت القيمة الحقيقية من عملية التعدين لتلك العملات المشفرة تأتى من استهلاك الطاقة، فإن تلك القيمة لا تبرر النمو السريع فى سعر العملة، ولا يمكن بأية حال أن توقف الانهيار السريع فى سعرها السوقى ولا أقول «قيمتها». العملات الرقمية أو المشفرة التى لا تستند إلى بنك مركزى فى إصدارها أو ضمان قيمتها، ولا تستند إلى أصول ملموسة لدى الإصدار، تقترب من نموذج «بونزى» من زاوية كونها ترتكز باستمرار على تيار متدفق من المشترين أو المكتتبين أو المستثمرين الجدد.
ولا يمكن أن نغفل ما تردد أخيرا من هروب بعض مؤسسى مشروع جديد لريادة الأعمال، استطاع أن يجمع ما يزيد على 33 مليون دولار فى جولات متتالية من طرح أسهم الشركة الناشئة على مستثمرين جدد، غالبيتهم بالطبع من شركات رأس المال الاستثمارى venture capital companies. تلك الشركات الممولة لمشروعات ريادة الأعمال القائمة فى الأساس على فكرة جذابة مصحوبة فى الغالب بتطبيق رقمى، تعتمد فى تقييم النموذج المالى لتلك الشركات على محددات كثيرة، لكن أوهنها فى رأيى هو الخبرة السابقة للمؤسسين فى مشروعات حققت نجاحا خلال عمر المشروع، الذى لا يتجاوز أشهر أو بضع سنين. هذا النجاح النسبى مازال فى مرحلة الاختبار، إذ مازال زخم تدفق المستثمرين الجدد مستمرا، مكتتبين فى الشرائح المطروحة عليهم فى زيادات ضخمة لرءوس الأموال لمشروعات ريادة أعمال ناشئة. ولا يستحيى صاحب أى مشروع من التصريح بأنه سيتخارج منه فى مدة لا تزيد على ثلاث إلى خمس سنوات! هذا التخارج يحمل ربحا كبيرا أضيف إلى سعر السهم بفضل اكتتاب المستثمرين الجدد فى أسهم زيادات رءوس الأموال.
وإذا كانت تلك المشروعات تحقق إيرادات كبيرة بالفعل، وتتجه إلى تحقيق صافى أرباح لحملة الأسهم، فلا بأس أبدا من إعادة تقدير القيمة العادلة للأسهم، وتمويل توسعات المشروع من خلال جولات لزيادات رءوس الأموال بالطرح على مستثمرين جدد. لكن المقلق أن كثيرا من تلك المشروعات قد بنيت على نموذج معيب، بحيث يصبح تحقيق واستدامة إدرار الأرباح من النشاط الفعلى للمشروع أمرا مستحيلا. فى هذه الحالة لا يمكن أن ندفع عن أذهاننا نموذج «بونزى» الذى يمول قدامى الضحايا (المستثمرين) من رءوس أموال الضحايا الجدد، لكن شكل التمويل هنا لا يأتى فى هيئة توزيعات أرباح أو فوائد، ولكن فى صورة نفحة إضافية على سعر السهم يمكن التخارج بها، محققا ربحا رأسماليا ناتجا عن زيادة سعر السهم فى السوق. أما النشاط ذاته فلا يعبأ به أحد، بل ربما لا تنظر الشركات المكتتبة فى المشروع إلى جدواه من تلك الزاوية إلا فى أضيق الحدود. لا أتحدث هنا عن شركة أو مشروع بعينه، ولا أستبق التحقيقات فى أية قضية.
• • •
التحديات التى تواجه مشروعات ريادة الأعمال كبيرة ومتعددة. التمويل هو أحد تلك التحديات، لكنه بالتأكيد ليس الوحيد أو حتى الأكبر. هناك تحديات تشريعية وتنظيمية وسوقية وتقنية... وهناك فرصة كبيرة لإخفاق المشروع بسبب أى منها. كثير من الشباب هذه الأيام لا يريدون الالتحاق بوظيفة بعد تخرجهم، ينظرون باستهزاء إلى أصحاب الدوام الوظيفى والراتب المحدود. يريدون أن يتصدر لقب «رئيس مجلس الإدارة» بطاقاتهم الوظيفية وهم بعد فى العشرين، ولا خبرة لهم فى أى شىء. لا بأس فى هذا النوع من الطموح، بل إننى أشجع عليه طلابى ومن طلب مشورتى، إلا إن الطموح الذى لا تدعمه عوامل النجاح وأسبابه هو محض أحلام لا يمكن تحقيقها إلا بالصدفة، وهذه إن حدثت فلا يمكن الإبقاء عليها إلا قليلا. ومن أبرز عوامل نجاح مشروعات ريادة الأعمال القائمة على الاقتصاد الجديد والتشاركى، هو أصالة الفكرة وجدواها الاقتصادية والمجتمعية. فإن صمدت الفكرة أمام المنافسة بجولة تمويلية واحدة (مثلا) واستطاعت أن تنطلق بالمشروع إلى الأمام بفعل النشاط الفعلى والقيمة المتحققة منه، فلا بأس من التوسع والانتشار بحساب.
فى عصر نماذج «بونزى» لا يهم أن يكون العمل الفنى أو الأدبى أصيلا أو متميزا أو ذا قيمة. فقط يجب أن يجتذب الجماهير والمشجعين، تماما كالفضيحة فى عرض الطريق، أو الخبر السخيف الذى يجذب القارئ المحدود كونه يحمل نكتة أو صورة مخلة. فى عصر تلك النماذج تختفى القيمة الحقيقية تحت طبقات سميكة من الإسفاف الذى يروق للكثرة من الناس. الكثرة صارت هامة لتحقيق العائد الكبير، حتى ولو لمرة واحدة أو كان ضربة حظ خاطفة تدر على صاحبها الملايين، دون أن تفتح بيوتا أو تضيف أية قيمة للمجتمع.
كاتب ومحلل اقتصادى