كانت السماءُ حالمةً، والقمر يطُلُّ بهيًا، ويسبغُ ضوءَه على الساهرين؛ يبعث بالتحايا إلى هذا وذاك، لا يحرمُ ناظرًا إلى وجهِه، ولا يتمنَّع على كل ذي عينين، وصافي التي لم تفقد بعد رهافة حسها رغم الخطوب، تتلقى مِن الثقب الظاهر أمامها؛ ما بين أبراجٍ شاهقةٍ وجدران مُصمَتة، نصيبًا يرضيها مِن البريق. تميل قليلًا إلى اليسار، ثم تعود إلى وضع الوقوف المستقيم، وتنحني بدقة إلى اليمين، فتبصر بين الكتلِ الخرسانية وأطباق القمر الاصطناعي؛ قمرها الأثير.
***
تمركزت في شرفتها الضيقة القصيرة، فملأت بجسمها المساحة المُتاحة، ومنعت بقية أفراد العائلة مِن الدخول؛ فتحت صدرها تروم الحصولَ على دفقات مِن الهواء المُنعش، فجاءها مَخلوطًا برائحة الحَرقِ المُعتادة في هذا الوقت مِن العام؛ ليمنح نفسَها دفئًا وسلامًا خالدين.
***
في غمرة الاندماج والمناجاة، ومع هفو قلبها لصفاءِ الحياة، اقتحم سمعَها صوتٌ عالٍ خشن، غطّى على أصواتَ الشارع كافة، ونحى جانبًا الضجيج. عربةُ نقلٍ ضخمة، وجرافات ومُعدات أخرى، توافدت على المنطقة، فسدت المداخل والمخارج، واتخذت وضع الاستعداد.
***
دقَّقت صافي النظر، فأدركت بغير حاجة إلى سؤال، أن البيتَ الوحيد ذي الأدوار الثلاثة، الباقي على وجه الأرض حتى الآن، الناجي على مدار العامين المُنصرمين مِن عمليات الهدم والازالة ، قد حان دوره واقتربت ساعتُه؛ منحته نظرةً أخيرة، وغادرت مَكمنها مَحسورة.
***
في الصباح الباكر رأت بقايا الغارةِ المُهيبة؛ قضبان حديد مَثنية، حجارة حوافها مَشطوفة، أجزاء مِن أعمدة مَقصوفة وأخشاب مَهروسة مَحنية. العملُ يجري على قدمٍ وساق، وغدًا تجد مكانَ البيت حفرةً عميقة، تشقُّ بطنَ الأرض، وتنغرس فيها الأسياخُ، ثم يصعد البناءُ الجديد كما جرى العرف في الفترة الأخيرة؛ مُرتفعًا بلا نهاية، قبيحًا بلا قيود، وسيحجب عنها دون خجل أو حياء؛ الثغرةَ الوحيدةَ التي ينفذ منها الضوء .
***
في طريقها إلى العمل اختارت مَسارًا أطول، يعبر بها أمام سور الحديقة. حديقةُ الطفولة التي طالما لعبت واختبأت فيها بنتًا صغيرة، وطرقتها شابة؛ تحمل مِن الأفكار والأمنيات ما يشحذ الروح ويجلو البصيرة، تخلَّت عنها امرأة ناضجة كبيرة؛ لا وقت عندها إلا للبيت والزوج والأولاد، ولم تعد تزرها بانتظام، قد لجأت إليها أخيرًا؛ تبغي العزاء والسلوى، وتطلب المواساة في نكبتها؛ لكنها لسوء الحظ، صادفت الجرافات ذاتها، تبذر في الأرجاء فسادًا؛ فتقتلع الأشجار العتيدة مِن جذورها، وتجتث الورود وتفترس النخيلَ، تجرف التربةَ وتبعثر الطينَ، وتسطُر مِن حولها نهايةَ عالمِ صافي القديم.
***
لم تكُن صافي يومًا ضعيفة، ولا عُرِفَت بلين العزيمة، هذه المنطقة ليست مُخصَّصةً للبناء؛ فكيف بهم يقوضون الحديقة؟ غضبت وزعقت وبحثت عن المسئولين، وخاطبت الحيّ والموظفين؛ لكنها لم تحصل على رد مَقبول ولا أتاها ما يشفي الغليل. قيل إن أرضَ الحديقة لها قيمة مادية هائلة، وإن البلد فقيرٌ يحتاج إلى بيع ما يمكن بيعه. قيل كذلك إن في الخُطةِ حدائقَ ومبانيَ أخرى، وإن الفائدةَ التي ستعود منها على الخزينة؛ لا يمكن التفريطُ فيها.
***
استعصى على صافي الفهمُ، وضاق أفقُها عن استيعاب ما يُتَّخَذ مِن تدابير. عجز عقلُها المحدود المسكين عن تقدير الفائدة المُنتظرة، وعن مبُاركة المَسعى الجليل؛ فطافت تشكو وتنوح، وتنعى الأثرَ والتاريخ؛ لكن التجاهُل صادف شكواها، ورشق الاستخفافُ تساؤلاتَها والتهوينُ، وفي غضون يومين لا ثالث لهما، لم تعد هناك حديقة، بل بقعة جرداء تتحرشُ بالناظرين.
***
في جولة مِن جولاتها العديدة مرت ببناءٍ ضخم؛ لا يزال قيد التشييد، وقد بدا أنه يتمدد بلا حدود، ويحتل مساحةً شاسعةً بلا زجر ولا تهديد. حين دارت مع أسواره العالية، رأت لافتةً كبيرة، تشير إلى طبيعة سكانه التي تفرض العنايةً والرعايةً، وتوجب الصمتَ والتقدير. لم يكن مستشفى أو مدرسة، ولا حديقة أو مسرحًا، بل سجنٌ جديد.
***
استدعت ذاكرتُها الحمقاءُ بلا سبب ولا تبرير، صورًا لبيوتٍ قديمة، وقصورًا في أحياءٍ عتيقة، طالها المحو بلا رحمة، وبين صورة وأخرى، كان البناءُ الضخمُ يومض في عينيها بإصرار، لا ينال منه هادمٌ، ولا يمسُّه معولٌ بسوء. الدكُّ يتوزع في الأرجاء عدلًا وقسطاسًا، لا يترك بقعة إلا وبصمة المرارة مزروعة فيها؛ لكنه يقف حتمًا عند ما صِيغ له مِن حدود.
***
أغمضت عينيها قليلًا، وحين غلبها النومُ شقاءً لا استرخاءً، زارها حلمٌ بمساءٍ طازجٍ، ترى فيه السماءَ بلا جهد، وتدرك القمرَ بلا مَشقة، وتنشق هواءً بلا سموم. مساءٌ رائقٌ، صافٍ مِن الهموم. مساءُ صافي.