طه حسين الذي لا ينتهي - سيد محمود - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 4:15 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

طه حسين الذي لا ينتهي

نشر فى : الثلاثاء 12 ديسمبر 2023 - 8:40 م | آخر تحديث : الثلاثاء 12 ديسمبر 2023 - 10:56 م

من المؤكد أن طه حسين لم يكن شخصا محظوظا، ولا يتعلق الحظ هنا بظروف فقدانه للبصر، لأن الله قد عوضه بالبصيرة ونال من المجد ما لم يبلغه أحد بعده وعاش ومات وقد ملأ الدنيا وشغل الناس.
لكن الحظ الذى أقصده هنا يرتبط بظروف رحيله وذكراه، فقد انتقل إلى رحمة الله فى 28 أكتوبر 1973 فى غمرة الانشغال بالنصر العظيم، كما تزامنت الذكرى الخمسين لرحيله مع حرب الإبادة الوحشية التى تشنها إسرائيل على غزة، ولذلك لم يكن هناك من مجال للاحتفال بتجديد ذكراه إلا فى حدود الملفات الصحفية التى تفاعلت مع المناسبة بقدر المستطاع.
وأسعدنى جدا العدد الهائل من الكتب التى صدرت لمواكبة الذكرى، كما أثارت اهتمامى ندوة نظمها المركز الثقافى الفرنسى يوم الأحد الماضى وشاركت فيها إلى جوار صديقى وأستاذى وزير الثقافة السابق الدكتور عماد أبو غازى والصحفى البارز إبراهيم عبدالعزيز والدكتورة جيهان عمران أستاذ الوثائق بجامعة القاهرة والتى رشحها د.أبو غازى للمشاركة فى الندوة وكانت واحدة من هداياه المعتادة، فقد استعرضت بحثا علميا مهما حول الأرشيف الوظيفى لطه حسين داخل جامعة القاهرة وهو أرشيف من شأنه أن يساهم فى إعادة التأكيد على عبقرية طه حسين استنادا إلى أدلة جديدة لم يطلع عليها أحد من قبل. فقد كشفت وثيقة تشير إلى أن عميد الأدب العربى رأس أول اتحاد للطلاب تشهده الجامعة المصرية عند تأسيسها.
وأكد الدكتور أبو غازى فى تعليقه على الوثيقة أنها تعيد كتابة تاريخ الحركة الطلابية، وتكشف تاريخ تأسيس أول جماعة طلابية تعبر عن مطالب طلاب الجامعة، لأن مؤرخى الحركات الشبابية يستعملون عادة تاريخ 1906 للإشارة إلى تاريخ تأسيس نادى المدارس العليا. ونعرف جميعا أن طه حسين بجامعة القاهرة بعد تأسيسها فى العام 1908 وكان من المنتسبين إلى دفعتها الأولى، بالتزامن مع دراسته فى الجامع الأزهر ونال أول دكتوراه فى تاريخها.
ويشمل الملف الوثائقى الهام بيانا بدرجات طه حسين طوال سنوات دراسته فقد نال الدرجات النهائية فى جميع المواد باستثناء مادة واحدة، كما أن أساتذة اللغة الفرنسية كتبوا هامشا على كراسة إجابته فى أحد الامتحانات أشاروا فيه إلى نبوغه وتفوقه مقارنة بأقرانه.
ونوهت صاحبة البحث المثير إلى أن طه حسين امتحن 10 مواد فى خمسة أيام متتالية خلال السنة الأولى بمعدل مادتين فى اليوم الواحد ليتمكن من ضم مواد الفصل الدراسى الأول مع الثانى، وحصل على الرغم من ذلك على أعلى الدرجات فى جميع المواد باستثناء مادة واحدة حصل فيها على 29 من مجموع 30 درجة. لكن أطرف ما كشف عنه الملف الوثائقى متعلق بعناد طه حسين وطبيعة شخصيته التى لم تكن تقبل التنازل عن أى حق وتسعى للنضال من أجل الحصول عليه، فقد شكل طه حسين مع مجموعة من الطلاب (جماعة طلابية) لتمثيل الطلاب أمام إدارة الجامعة كرد فعل على سلوك موظف إدارى أساء معاملته لتأخره فى دفع المصروفات، وحاول منعه من الدخول لولا أن طه حسين كتب مذكرة طالب فيها بمحاسبة هذا الموظف وتأديبه لأن الجامعة تحتاج إلى التلميذ كما تحتاج إلى الأستاذ.
وفى الوثيقة التى تعود إلى العام 1912 حدد طه لمدير الجامعة أحمد زكى باشا موعدا للبت فى شكواه بنبرة ثقة يصعب تصورها من طالب عاجز عن دفع المصروفات، لكن هذا التكوين الصلب والاعتزاز بالكرامة هو الذى ساعده على بلوغ ما بلغ من مكانة وفى كلمته تناول ابراهيم عبدالعزيز جملة من الوقائع تخص الوضع المالى لطه حسين منذ جاء للأزهر طالبا وحتى رحل عن عالمنا. أما بحث الدكتورة جيهان عمران فهو يكمل جهدا مماثلا أنجزه الباحث حسام أحمد فى كتابه (النهضوى الأخير) والذى منح حقوق ترجمته لمشروع كلمة فى أبوظبى وهو دراسة فريدة فى أرشيفات الوظائف الرسمية التى تقلدها طه حسين وحاول فيها تطبيق أفكاره، كما لفت أبو غازى إلى طالبة دكتوراه تعمل على دراسة أرشيفه فى الازهر الشريف ولا شك أن مثل هذه الدراسات تعيد رسم صورة عميد الأدب العربى بصورة تخدم البحث التاريخى. ومن أهم النقاط التى أثارتها الندوة إشارة الدكتور أبو غازى إلى ضرورة إتاحة الوثائق أمام الراغبين فى كتابة التاريخ، فضلا عن إشارته للأدوار التى تلعبها الأرشيفات البديلة فى كتابة تاريخنا، سواء كانت مستمدة من الأرشيف الصحفى أو من أرشيفات العائلات والأرشيفات داخل المؤسسات ذات الصلة. فى حين ذكر إبراهيم عبدالعزيز أنه من المؤسف جدا أن جهود جمع تراث طه حسين فى الدوريات قد توقفت رغم ما حققته من نتائج متميزة وهى كارثة من كوارثنا التى تشير إلى (قصر النفس) الذى يحيط بمعاركنا كلها.