خبرة السنوات الثمانى الماضية فى التفاوض مع إثيوبيا حول سد النهضة، لا يمكن أن تعطى للجانب المصرى أى قدر من الثقة فى نوايا أديس أبابا المستقبلية فيما يتعلق بحقوق مصر فى مياه النيل، وضمان حصولها على حصة عادلة تكفى احتياجاتها الأساسية.
طوال هذه السنوات لجأت إثيوبيا إلى كل أساليب المراوغة واللؤم والخداع لإحكام سيطرتها الكاملة على نهر النيل، ليكون مجرد «صنبور» فى يدها يمكنها أن تغلقه أو تفتحه كما تشاء، فى نفس الوقت الذى كانت فيه القاهرة تتعامل فيه مع إثيوبيا بحسن نية غير مبرر، وهو ما يجعل المشكلة مع إثيوبيا ليست قاصرة على عدد سنوات ملء خزان السد، بقدر ما هى احتكار إثيوبيا ملكية مياه النيل الأزرق فعليا، وتحكمها الحصرى فى كميات المياه التى تصل إلينا، والتهديد بحدوث مجاعات فى مصر بسبب نقص الانتاج الزراعى لفقداننا أكثر من مليون ونصف المليون فدان لن تجد الماء الكافى لريها مع توقف بالطبع كل المشاريع الزراعية الجديدة، وانخفاض كهرباء السد العالى بسبب توقف الكثير إن لم يكن كل توربيناته عن العمل وخاصة فى السنوات التى تنخفض فيها ايرادات النيل، مع ما يترتب على كل ذلك من حدوث مجاعات فى مصر وانهيارات رهيبة فى مستويات المعيشة تهدد الأمن القومى المصرى فى الصميم.
لا توجد أى ضمانات ــ طبقا لسلوكيات إثيوبيا التفاوضية معنا ــ تمنعها من خنق مصر مائيا، وتعريض حياة ملايين المصريين لخطر الموت جوعا وعطشا، والتسبب فى انهيار اقتصادنا الوطنى، وخلق فوضى قد تكون غير مسبوقة فى تاريخ مصر.
ما يجب أن يركز عليه المفاوض المصرى خلال جولة المفاوضات التى تستضيفها واشنطن حاليا بين مصر وإثيوبيا، هو التركيز على حتمية الإدارة المشتركة لسد النهضة، وربط تصرفاته المائية مع السد العالى وبكل سدود النيل الحالية أو التى قد تبنى فى المستقبل، لضمان توزيع عادل لمياه النيل تحافظ على حقوق دولتى المصب، ولا تجور على حقوق دول المنبع فى الاستفادة من المياه فى مشاريع زراعية أو كهربائية، لأن اهتمام مصر فقط بسنوات ملء الخزان رغم أهميتها إلا أنها ــ حتى إذا توقف التعنت الإثيوبى تجاهها وهو أمر مستبعد ــ فسوف تؤجل المشكلة لعدة سنوات فقط ولن تحلها نهائيا.
الكثير من الأسلحة القانونية يمكن أن يوظفها المفاوض المصرى فى معركته السياسية والدبلوماسية مع نظيره الإثيوبى، والعديد من الوثائق التى قدمتها المستشارة هايدى فاروق للحكومة والرأى العام فى مصر يمكن أن توقف مسلسل الخداع الإثيوبى، وعلى رأسها اتفاقية عام 1902 التى وقعت عليها إثيوبيا والتى تنازلت بموجبها مصر لإثيوبيا عن أراضٍ كانت تمتلهكا فى منطقة بنى شنجول التى يقام عليها سد النهضة مقابل تعهد أزلى إثيوبى بعدم القيام بأى عمل على مجرى النيل بدون موافقة مصر والاتفاق معها، وهى الاتفاقية التى لا يمكن للجانب الإثيوبى التملص منها، كما فعل فى اتفاقيتى 1929 و1959 بحجة أنه لم يوقع عليها.
خرق إثيوبيا لهذه الاتفاقية سيعطى لمصر الحق فى استخدام كل الوسائل الأخرى لضمان حقوقها المائية، بعد أن تجاوزت المفاوضات معها مرحلة العبث واستهلاك الوقت، وهو وضع لم يكن لإثيوبيا أن تلجأ إليه مالم تكن مدعومة، كما قال الاستاذ محمد حسنين هيكل فى أحد حواراته التليفزيونية قبل رحيله بقليل، من قوى أوروبية استعمارية، مؤكدا اطلاعه على وثيقة أوروبية قديمة تكشف بوضوح أن الضغط على مصر بورقة ماء النيل عبر إثيوبيا استراتيجية لم يسقطها العقل السياسى الغربى من حساباته، دون أن نستطيع طبعا إغفال دور إسرائيل التى يقال إنها قدمت لحكومة إثيوبيا منظومة صواريخ لحماية السد من أى هجوم محتمل قد يتعرض له.
المستقبل حافل باحتمالات عديدة مع إثيوبيا التى عليها أن تختار ما بين رؤية مصرية تستهدف التعاون المشترك للاستفادة من مياه النيل لكل الأطراف.. أو أن تستمر فى اللعب بالنار!