لا أفهم فى كرة القدم سوى صرخة الفرح التى يطلقها أولادى (الذين لا يشربون بريل بالمناسبة وآمل أن أراهم رجالا فى المستقبل القريب)، وزوجى عندما يحرز فريق الأهلى أو المنتخب المصرى هدفا فى مرمى الخصم. أشاركهم هذه الفرحة ومن قبلها الخوف والترقب، وإن شغلت نفسى طوال المباريات بأنشطة لا تمت للرياضة بصلة. ولكننى بسبب تخصصى أنشغل بما قبل المباراة وما بعدها على القنوات الفضائية وصفحات الجرائد، وسوف أشغلكم معى بتعليقات على بعض ما رأيت وقرأت خلال الأسابيع الماضية.
الفساد: كشف المنتخب الوطنى بسبب تسلط الأضواء عليه وعلى اتحاد كرة القدم فسادا طال السكوت عنه. وبعيدا عن ملفات الفساد المالى والإدارى والفنى الذى ضرب فى أركان اتحاد كرة القدم، حسب ما أعلن أحد أعضاء مجلس الشعب اكتشفنا فساد العائلة. فيبدو أن جميعنا يتعامل مع مصر على أنها ملك لنا، ليس من منطلق أنها وطننا ونحن مسئولون عنه ولكن من منطلق أنها عزبة أبونا، فيسافر كريم حسن شحاتة مع والده لتغطية أخبار المنتخب لصالح قناة فضائية، ويسافر حمادة سمير زاهر مع والده لأن الأخير، على حد تعبيره، «يتفاءل به»، ويلحق علاء مبارك وجمال مبارك بالمنتخب على متن طائرة خاصة، ويهتفان مع اللاعبين بعد انتهاء المباراة «منتخب مصر كويس.. زى ما قال الريس»، وتظهر فتاتان فى أحد البرامج الرياضية لمجرد أنهما ابنتا المخرج ويجاملهما المذيع الهمام، ويستقبل نفس المذيع رسائل على الموبايل ومكالمات تليفونية من زوجته تطلب منه الاتصال بها لأن لديها أخبارا مهمة عن المباراة أو لتهنئه بالفوز. مفهوم الملكية العامة يعنى أن المرافق العامة والوظائف العامة تعود منفعتها على الجماهير، ولكن يبدو أن هذا المفهوم تغير وأصبح يعنى أن المرافق العامة والوظائف العامة هى من قبيل المال السايب الذى لا صاحب له. وبالتالى هوجم أحد المذيعين الذى حاول طرح التساؤل حول شرعية ركوب كريم حسن شحاتة أتوبيس المنتخب فى ظل منع بقية الصحفيين من هذه الميزة، واتهم هذا المذيع بإثارة البلبلة وعدم الوطنية فى هذه اللحظة من عمر المنتخب وعمر مصر.
الفساد العقلى: بلغ الفساد العقلى مداه فى مناسبة كأس الأمم الأفريقية، فقد اعتبر البعض أن تأييد الرئيس وأبنائه للمنتخب مقدمة لحصوله على بطولة كأس الأمم، وكأن الكرة تلتزم توجيهات السيد الرئيس كباقى مسئولى الدولة، وسادت الهلاوس الإعلامية حول كره الآخرين وانبهار السيد الأوروبى الأبيض بمستوى الفريق المصرى الذى أبهر كل من لمست أرجله كرة للقدم. وتنصلت مصر من عروبتها مرة وقت أن خسرت من الجزائر، ثم عادت وهاجمت كل من اعتبر انتصارها فى إحدى المباريات مصدر فخر لمصر فقط وليس للعرب جميعا وزايدت على عروبتها بعد الحصول على البطولة. ورقص المذيعون وهم يحملون علم مصر بعدما أدانوا تدنيسه من قبل مشجعين فى مناسبة أخرى. وبدلا من الانغماس فى التحليل الفنى للمباريات والمستوى الفنى للفريق استغرق الرأى العام (إعلاميون وجمهور ورجال دين) فى مناقشة تدين اللاعبين والمدرب وأثر ذلك على الأداء. صحيح أن قرب الإنسان من الخالق جل وعلا هو أمر مطلوب ومحمود فى كل الأحوال، ولكن لم أفهم كيف يتحول معيارا لضم لاعب واستبعاد آخر. وإذا كان التدين شرطا ضروريا لإجادة اللاعب فكيف نفسر تفوق فرق إنجلترا وفرنسا والبرازيل وألمانيا، وهى التى من الضرورى أن يلتزم لاعبوها أخلاقيا، وإن ظلت مسألة تدينهم وصلاتهم وصيامهم مسألة لا تعنى المدرب أو الجماهير، وكيف نفسر تخلف مركز المملكة العربية السعودية وجمهورية إيران الإسلامية ودولة ماليزيا فى الترتيب العالمى لفرق كرة القدم فى ظل ما يبدو من صلاح لاعبيها والأجهزة الفنية.
وبلغت حالة الانفصام مداها حينما طالب بعض المشجعين بفتح حساب بنكى يمكن من خلاله التبرع للاعبين من جميع الدول العربية، واقترح آخر إضافة مبلغ جنيه على فاتورة الموبايل كنوع من أنواع التشجيع للاعبين، والأدهى أن مستقبل هذه المكالمات التليفونية أصابه الفرح لوجاهة الفكرة واعتبر أن مبلغ الجنيه لا يمثل أى مشكلة فهو يساوى إرسال رسالة قصيرة، وكأن المتصل والمستقبل يعيشان فى عالم لا وجود فيه للفقر ولا للمرض ولا للكوارث الطبيعية والتى تستوجب التبرع لها.
جنون العظمة: بدأت مظاهر هذا الجنون مع فوز مصر على الجزائر 4/صفر فيما وصف بأنه مباراة رد الاعتبار بعد هزيمة مصر فى تصفيات كأس العالم. فاعتبر المحللون أن هذه المباراة تاريخية وتثبت أن المنتخب المصرى هو برازيل العرب! وبدلا من مناقشة أداء المنتخب المصرى فى البطولة ككل، وهو أداء مشرف بكل المقاييس، للدلالة على تميز الفريق ومهارته اعتمدت مباراته مع الجزائر مرجعية فى هذا الشأن. وتزايدت مظاهر جنون العظمة مع حصول مصر على البطولة كتمجيد اللاعبين والثناء على وطنيتهم وحبهم لمصر، وكأن باقى الفرق مكونة من مرتزقة لم يعنهم أى شىء سوى المكاسب المادية المرتبطة بالفوز. وكان مما أثار الدهشة إشارة المحللين والمذيعين إلى الدور الذى لعبه جمال وعلاء مبارك فى انتصار الفريق، وتباسط مذيع مع جمال مبارك مخاطبا إياه بجيمى، وأشار آخر إلى السابقة التاريخية المرتبطة بحمل جمال مبارك لكاميرته الشخصية وتصوير لقطات من المباراة، وحيا ثالث شعور الأخوين لحظة إحراز اللاعب جدو للهدف حينما احتضنا بعضهما فرحا. بدا كما لو كان الهدف التأكيد على الجانب البشرى لهذه الشخصيات الأسطورية، وكما لو كان تأليه اللاعبين لابد وأن يستكمل ببشرية أبناء الرئيس، الذين يصبحان فى هذه الحالة مثل الملايين من المصريين يفرحان ويقفزان من السعادة لهدف من قدم لاعب وتطفر من عينيهما الدموع عند الهزيمة. لا أعرف لماذا كلما سمعت هذه المناقشات تذكرت المسرحية التى كان بطلها يقول فى تعريفه لشخص غائب «شفيق يا راجل اللى لما بيعطش بيشرب»، وكأنه يقدم بعدا جديدا فى تعريف الشخصية.
هذه الملاحظات وغيرها كثير لا يجب أن تفسد فرحتنا بإنجاز مصرى مائة بالمائة، ولكن يجب أن نضعها فى حسباتنا ونحن نصف المنتخب بأنه «أسياد أفريقيا»، فهم فى النهاية أبناء أفريقيا وأبناء هذا الوطن الغلبان الذى تاق أبناؤه لشعور بأى انتصار حتى ولو كان فى مباراة كرة.