تطرح التطورات السياسية العنيفة على الأرض خلال الأسابيع الفائتة للمرة الألف الحديث عن الدولة وهيبتها، وترصد بكثير من الترقب والتخوف والهجوم كل ما يلمح منه محاولة لفتح ملف العلاقة بين المجتمع والدولة بشكل يوازن بينهما دون أن تتغول الثانية على الأول.
استقرت الدولة المصرية عبر آلاف السنين على ضفاف نهر النيل، وبالرغم من تعدد الغزاة والفاتحون والحضارات المختلفة لم تستطع أى منها أن تهزم لا الدولة ولا المجتمع المصرى. فقد استطاع المجتمع المصرى استيعاب كل هذه الحضارات الغريبة وهضمها وإعادة انتاج قيم ومؤسسات وعلاقات اجتماعية تتناسب مع الواقع المصرى السياسى والاقتصادى والاجتماعى. وأما الدولة المصرية فلم يستطع اى نظام سياسى وافد على مصر ان يتجاهل حقيقة وواقع قوة الدولة المركزية النهرية التى لا تنفصل بالضرورة عن مجتمعها ولكنها بالتأكيد لا تتماهى معه. وظلت هذه العلاقة مستمرة فى الدولة الفرعونية بمختلف أسرها، وحكم الاغريق والرومان، والفتح العربى لمصر، والدول المختلفة التى تعاقبت على حكم المصريين مرورا بمحمد على ووصولا إلى الجمهورية الحديثة التى اعقبت قيام ثورة يوليو ووصلت بنا إلى ثورة 25 يناير 2011.
هذه الدولة التى ترى فى مؤسساتها ومبانيها ورموزها الرسميين وسياساتها الحكومية وموظفيها ــ ترى فيهم جوهر وجودها، لا ترى المجتمع والمواطنين إلا من حيث علاقتهم بالسلطة السياسية طاعة أو مناوئة، وتعتبر بقاءهما ضرورة لاستمرار الدولة وبقاءها. ويتجاهل هذا المنطق أن الدولة سواء كانت كيان طبيعى أو صناعى إنما تم تطويره استجابة لحاجات بشرية معينة قد يكون الامن هو أحدها ولكنه ليس بالتأكيد الحاجة الوحيدة التى تنشأ الدولة من أجلها.
●●●
فى هذا السياق يمكن فهم حالة الجدال الدائر فى الشارع المصرى الرسمى والشعبى حول العلاقة بين الشرعية الدستورية والشرعية الثورية، فالأول هو منطق الدولة التى ترفض اى محاولة للاقتراب منها بشكل يحرمها من قدرتها على السيطرة على المجتمع والثانى هو منطق المجتمع الذى يحاول بكل الاشكال تأسيس حقه فى إعادة النظر فى المنطق الذى ينظم علاقاته السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية مع الدولة. بدأ هذا الجدل مع الصراع حول الدستور هل نقبل بتعديل عدد من المواد تحكم المرحلة الانتقالية على أن يتم كتابة الدستور فى مرحلة تالية، أم نبدأ كما تبدأ الثورات بإعادة تصميم العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية فى المجتمع بغرض تحقيق النقلة النوعية عن نظام ما قبل الثورة. واستمر الجدل مع استمرار دور المجلس الاعلى للقوات المسلحة فى إدارة حكم المرحلة الانتقالية بشكل لا يتناسب مع الشرعية الدستورية، فلا يوجد فى دستور 1971 ما ينص على إمكانية أن يتخلى رئيس الجمهورية عن منصبه فضلا عن أن يكلف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة البلاد. كما لا يتناسب دور المجلس مع الشرعية الثورية التى لا يمكن بحكم تعريف الثورات التى تقبل بأن تكلف أحد أهم وأقوى أجهزة النظام المثار عليه أن يقود عملية تحول حقيقية فى المرحلة الانتقالية!. وتصاعد واتخذ اشكالا أكثر حدة وعنف مع استمرار التظاهرات والاعتصامات أمام مبان ومنشآت تمثل الدولة. وتعاملت مؤسسات الدولة القمعية بعنف مفرط مع المتظاهرين والمعتصمين مما اسقط عشرات الشهداء ومئات المصابين، الملفت للنظر هو حالة التعاطف التى سادت لدى قطاعات من الشعب المصرى مع العنف الذى مورس ضد المتظاهرين والمعتصمين ــ وآخرها مأساة العباسية، وقبولهم المنطق الذى سوقت له عدد من وسائل الإعلام بأن الدولة المصرية مهددة بالتفكك والإنهيار وفى بعض الآراء للوقوع تحت الاحتلال نتيجة هذه المظاهرات والاعتصامات. والسؤال المهم هنا لكى نحل هذا التشابك بين منطق الثورة ومنطق الدولة، هل تقوم الثورات لكى تهدم الدولة أو لكى تهدم العلاقات الحاكمة للمؤسسات والسياسات والقيم التى سادت فى الدولة والتى أدت لتفاقم أزمة الشرعية وحدوث الثورة؟ التاريخ يشهد أن الثورات الكبرى والفاشلة والاجتماعية وحتى الانقلابات العسكرية لم يكن من أهدافها فى أى مرحلة أن تهدم دولها، ولكنها بالتأكيد حاولت ونجحت ــ وفشلت فى أحيان ــ فى إعادة تشكيل منطق العلاقة بين الدولة والمجتمع بشكل يحترم ضرورة أن تستجيب الأولى لمطالب الأخير.
هذا ليس دفاعا عن ثوار أو متظاهرين أو معتصمين (وإن كانوا أولى بالدفاع أمام آلة إعلامية وأمنية تفتك بهم معنويا وماديا) ولكنه محاولة لوضع الأمور فى نصابها الصحيح، بدءا من التظاهر والاعتصام فى ميدان التحرير (ميدان الدولة باعتبار الوزارات والهيئات الحكومية الموجودة فى منطقة وسط البلد) والتظاهر والاعتصام أمام مجلس الوزراء أو مجلس الشعب أو محيط وزارة الداخلية أو حتى أمام وزارة الدفاع. فالثورة لم تقم فقط ضد وجود مبارك واستمراره من خلال توريث الحكم لابنه، ولم تقم فقط ضد فساد هذه المؤسسة أو تلك، أو لمحاسبة هذا المسئول أو ذاك عن امتلاك شقة أو قصر، وإنما لخصت مطالبها فى «العيش، الحرية، الكرامة الإنسانية» وهو الأمر الذى لن يتحقق دون إعادة تشكيل علاقات القوة ومعالجة مظاهر الاختلال فيها بين المجتمع والدولة.
●●●
كنا ننظم لمحاضرة فى مركز الدراسات الحضارية وحوار الثقافات بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية لمحاضرة بمناسبة عيد استقلال كوسوفو، وأخبرنى المحاضر الضيف أن هذه الدولة حديثة الاستقلال عانت إبان فترة المذابح التى تعرضت لها من الصرب من تدمير ما يقرب من 80% من البنية الأساسية، ومن مقتل وتعذيب آلاف المواطنين، وقال مباهيا أن الشعب الكوسوفى لم يتوقف عند هذه المآسى وإنما اصر على بناء دولته الجديدة والحديثة، واستمر مباهيا بأن الشباب يلعب دورا محوريا فى بناء حاضر ومستقبل كوسوفا؛ فرئيس الجمهورية سيدة تبلغ من العمر 36 عاما، وهناك عدد من الوزراء ونواب الوزراء وأعضاء البرلمان الذين لا يتجاوز عمرهم الثلاثين عاما، ووجه انتقاده للشباب المصرى الذى اعتبره منشغلا ومهدرا طاقاته فى الجدل دون العمل. شغلتنى ملاحظته طويلا وسيطرت على فكرة ان الشباب فى مصر لم يمنح فرصته الحقيقية فى الإسهام فى بناء مصر الجديدة، ولكننى اكتشفت أن الوضع فى مصر يتجاوز مسألة سن القائمين على إدارة المرحلة الانتقالية أو أعضاء البرلمان أو الوزراء أو حتى مرشحى الرئاسة. فالسؤال الحقيقى من منهم يملك القدرة على الحلم بأن المجتمع المصرى قادر على إعادة تشكيل خرائط القوى فى مصر بشكل يعيد التوازن للعلاقة بينه وبين الدولة؟ الحالمون فقط هم من يثورون.. احلموا يرحمكم الله.