علقت الأسبوع الماضى على البيان الذى أصدره البنك الدولى بمناسبة تجديد اتفاقه مع مصر لسنتين إضافيتين، موضحا أن البيان لم يذكر أن ٦٠٪ من المصريين يعيشون تحت خط الفقر كما شاع بين الكثير من المعلقين، بل إن هذه النسبة تشمل فى مفهوم البنك الدولى الفقراء والمهددين بالفقر معا.
وقد تلقيت العديد من التعليقات حول هذا الموضوع بما يؤكد أهميته وحجم انشغال الرأى العام به. من بينها ما جاءنى من تساؤلات لا تخلو من الاستنكار عن جدوى التفرقة بين الفقراء والمهددين بالفقر، وما إذا كان الأمر لا يعدو أن يكون تلاعبا بالألفاظ من أجل تجميل الواقع والدفاع عن السياسات الاقتصادية الحكومية. والحقيقة أن غرضى لم يكن الدفاع ولا الهجوم، بل تحرى الدقة فيما يجرى تداوله حول نسبة الفقر وغيره من المواضيع الاقتصادية لاعتقادى أن عدم انضباط المفاهيم والارقام يجعل الحوار مستحيلا، والنقاش بلا جدوى، كما أنه يترك الجمهور محتارا وغاضبا بين إعلام رسمى لا يذكر إلا ما يؤيد الحكومة وسياساتها ومعارضة محدودة الأدوات والمصداقية.
ومع ذلك فإن التساؤل عن أهمية التفرقة بين مفهومى الفقر (Poverty) والتهديد به (Vulnerability) جاء فى محله، خاصة أن لهذه التفرقة تداعيات كثيرة على فهمنا للواقع الاقتصادى كما أن لها آثارا مهمة على طبيعة السياسة الاقتصادية المطلوبة لمواجهة كل من الظاهرتين، ولهذا اعود اليها اليوم.
أما عن الفقر فلا أظن أنه يحتاج شرحا مطولا، وقياس نسبة الفقر فى المجتمع يستند إلى تحديد دخل يومى للفرد يكون من لا يحققه فقيرا أو واقعا تحت خط الفقر. وأما عن المهددين بالفقر فهم من لا يقعون اليوم تحت خط الفقر، ولكن تهددهم الظروف بالوقوع تحته مستقبلا إذا تغيرت ظروفهم، سواء كان ذلك لأسباب شخصية (مثل الإصابة بالمرض أو الفصل من العمل) أو لأسباب قطاعية (مثلما هو حال من يتعرضون لتقلبات التشغيل فى قطاعى البناء والسياحة) أو لأسباب محلية (حينما يصيب الاقتصاد ركود عام) أو لأسباب دولية أو إقليمية (كما حدث وقت عودة العمال المصريين من ليبيا). فى كل هذه الحالات فإننا نكون بصدد أشخاص يعملون ويكسبون دخلا لا بأس به يتجاوز حد الفقر، ولكن ظروف عملهم ومعيشتهم من الهشاشة وعدم الاستقرار ما يجعلهم مهددين باستمرار بالوقوع فى دائرة الفقر مع أى تغير سلبى غير متوقع.
ولكن ما أهمية كل ما سبق؟ وما جدوى التفرقة بين الفقراء والمهددين بالفقر؟
فى تقديرى أن هناك أهمية بالغة لالقاء الضوء على مفهوم المهددين بالفقر فى المجتمع، أولا لأن هذه فئة لا يستهان بها ويجب التعامل معها ومع أوضاعها الهشة بوعى وجدية حتى لا تتسع دائرة من يعانون من الفقر بالفعل، وثانيا لأن السياسات والأدوات التى تستخدمها الدولة لاحتواء الفقر والتعامل مع الفقراء ليست بالضرورة صالحة لمساندة المهددين بالفقر ووقف المزيد من تدهور أوضاعهم الاقتصادية.
وقد اتجهت الحكومة فى السنوات الأخيرة إلى الخروج من اشكالية الدعم السلعى الذى كان جزء كبير منه يذهب لغير مستحقيه عن طريق استهداف الفئات الأكثر فقرا بنظم جديدة للدعم النقدى والسلعى أكثر انضباطا فى القياس ودقة فى التنفيذ مثلما جرى مع برنامجى «كرامة» و«وتكافل»، والنظام الحالى لدعم الخبز، وتوفير بعض المساكن لمحدودى الدخل. وكلها برامج جيدة وتسعى بالفعل لرفع الفقر عن الأكثر تأثرا به.
ولكن الاعتماد على هذه البرامج وحدها ليس كافيا لأن المجتمع لا ينقسم إلى فقراء وغير فقراء فقط، بل يتضمن قطاعا كبيرا من المهددين بالفقر يكاد يضم ثلث أفراد الشعب إذا اعتمدنا على تقديرات البنك الدولى فى بيانه الأخير. وتجاهل هذا القطاع سواء من الدولة أو من المهتمين بالشأن الاقتصادى يعبر عن قصور فى نظرتنا للملف الاجتماعى لأن كثيرا من أعضاء هذه الفئة قد لا يكونون فى الوقت الراهن مستحقين لإعانات «كرامة» و«تكافل» أو لدعم الخبز أو لمساكن محدودى الدخل لأن دخولهم الحالية تتجاوز الحد الأدنى للاستحقاق، ولكن حياتهم معلقة بخيط رفيع من الأوضاع غير الرسمية والدخول غير المستقرة والتقلبات المفاجئة فى الأسعار.
لهذا فإن السياسات التى تساند المهددين بالفقر هى كل ما يحقق لأوضاعهم الهشة وغير المستقرة قدرا أكبر من الاستقرار، والطمأنينة، والاستدامة، والقدرة على توقع ما سيأتى مستقبلا والتعامل معه. من ذلك مثلا السياسات التى تحقق الاستدامة فى العمل بالنسبة لأصحاب الأعمال الموسمية والعرضية، وإتاحة فرص التعليم الجيد بشكل مستمر ومضمون بعيدا عن التكاليف الباهظة وغير المعروفة مسبقا للدروس الخصوصية، وإتاحة العلاج الصحى المجانى من خلال نظام التأمين الصحى الشامل، والحماية القانونية من الفصل التعسفى، والتمتع بتأمين اجتماعى رسمى ومعاش مناسب لكل من يعمل. كل هذه سياسات لا تعتمد على المزيد من منح الإعانات والدعم الذى يفترض أن يكون موجها للفقراء، ولكن تمنح المهددين بالفقر ما هو أهم من ذلك وهو الاستمرارية والأمان والقدرة على التوقع والاستعداد للمستقبل.
الفقر هو التحدى الأكبر الذى يواجه مصر، ومكافحته تحتاج لسياسات توفر الحد الأدنى من احتياجات الفئات الأكثر فقرا، كما تحتاج أيضا سياسات وقائية تحمى قطاعا كبيرا فى المجتمع من الانضمام إليهم.