التناقض قد يكون سببا فى الإثارة. عندما تجتمع مشاعر الحب والكراهية فإن المشهد يكون مثيرا، وعندما يتلاقى المختلفون، ويتناقضون فى المواقف مع غيرهم فإن ذلك يخلق مساحة تشويق وإثارة. يبدو أن هذه خلطة إنسانية فريدة.
النجاح العالمى الذى لا تزال أوبرا «كارمن» تحصده يعود فى جانب منه إلى الجمع بين الحب والعنف، الحب الذى جمع بين الجندى والفتاة الغجرية، والقتل الذى كان مصيرها عندما وقعت فى هيام شخص آخر غيره. إنها الإثارة الغريبة التى تجمع بين مشاعر متناقضة، الحب بما يعنيه من مشاعر دافئة فياضة، والعنف بما يتضمنه من كراهية، وغضب، ورغبة فى نفى الآخر.
لا يختلف المشهد السياسى عن علاقات الحب والعنف فى «كارمن». علاقات الود فى «ميدان التحرير» فى أيام الثورة الأولى تحولت إلى استقطاب حاد. الإثارة تجعل الساسة والإعلام فى شكل الحركة، لكنها تشبه حركة قطع الشطرنج، تلاحق مستمر، تربص دائم، اتهامات مرسلة.
●●●●
الصورة الأولى: أعلن عن تنسيق بين قوى ليبرالية ويسارية، وجماعات صوفية، وأقباط للدفاع عن الدولة المدنية فى «مليونية» لا تزال مختلف عليها للرد على المليونية الإسلامية يوم الجمعة 29 يوليو. إذا كان الاتهام الموجه للإسلاميين عموما هو «الخلط بين السياسة والدين»، فهل انخراط الجماعات الصوفية والأقباط، على خلفية هويتهم الدينية إلى جانب قوى معلمنة ليس خلطا بين السياسة والدين؟. ظهور «الأقباط» بمظهر الكتلة المغلقة التى تصطف إلى جانب فى مواجهة فصيل آخر ليس فى صالحهم، ولكن حضورهم الفاعل يكون فى تعدديتهم السياسية، وانتشارهم بين القوى والتيارات السياسية على قاعدة المواطنة، فكونهم أقباطا ليس انتماء سياسيا فى ذاته، ولا يصح أن يشكل هوية سياسية فرعية بالنسبة لهم، ولكن حضورهم الانتشارى فى أوساط القوى السياسية يشكل صمام أمان سياسى بالنسبة لهم.
الصورة الثانية: التقاء الإسلاميين جميعا فى مواجهة «العلمانيين»، غابت الاختلافات بينهم إلى الحد الذى جعلهم جميعا صورة واحدة. هناك «صمت» متعمد بشأن القضايا الخلافية، خاصة ما بين الوسطية والسلفية. اللحى تتشابه، وتتلاقى، وتتواصل فى إطار معركتها مع القوى العلمانية.
الإخوان المسلمون يريدون الظهور بمظهر «العاقل الإسلامى»، تاركين الصخب، والاندفاع للقوى السلفية، حتى نجد من يقول، وهناك من يقول بالفعل «الإخوان المسلمين أرحم». وذكاء الإخوان المسلمين يُمتدح فى تواصلهم مع كل القوى السياسية، وانفتاحهم على المختلفين معهم، بمن فيهم ألد أعدائهم فى النظام السابق، وهم أقل إظهارا للرغبة فى التطهير الكامل لقيادات النظام السابق، رغم أنهم الأكثر معاناة منه. وهكذا، يخرج الإخوان من «حلبة العراك السياسى»، خاصة بعد خفوت بعض أصواتهم التى كانت تثير غبار النقاشات، تاركين للسلفيين دورهم فى إشاعة التناقض، والخوف، والمساجلات الملتهبة. وهم يعلمون أن السلفيين لن يجنوا شيئا فى صندوق الانتخاب، والكاسب الحقيقى سيكون الإخوان المسلمين.
الصورة الثالثة: التيارات العلمانية- بشكل عام- تبدو أقل انفتاحا، وقدرة على التواصل مع غيرهم. هذا تناقض لافت. هناك شعور بالخوف يعطل حركتهم، وتحالفهم يكون فى مواجهة غيرهم، وهو ما ينعكس على الانفعال الذى يغلف خطاباتهم. لم يستطيعوا إلى الآن بلورة أطروحات جاذبة للشارع، ويكتفون بالمساجلات الفضائية. وعلى حد تعبير أحد الكتاب الإسلاميين «هم يمتلكون الفضائيات، ونحن نمتلك الشارع». هذه الحالة من العجز المقترن بالخوف من «القادم الإسلامى» لابد من الخروج منها بالعمل مع الجماهير، والتعبير عن مطالبهم، واحتياجاتهم، وتعبئتهم من منطلق الانتماء السياسى.
الصورة الرابعة: الشارع تحول إلى ساحة للتفاعلات، والتعبير عن الرأى، واستعراض العضلات السياسية، وإدارة الاستقطاب. الديمقراطية ليست كذلك، بل هى حملات منظمة، وبرامج معلنة، وصندوق انتخاب سوف يحسم فى النهاية الأوزان النسبية للقوى السياسية. بالتأكيد ليست المليونيات، أو الفضائيات، أو المساجلات الملتهبة على صفحات الصحف، ولكن هى الانتخابات. يبدو أن حزب «الحرية والعدالة»، المعبر عن الإخوان المسلمين هو الذى يستعد للانتخابات، ولم تنطلق «نوبة الصحيان السياسى» فى صفوف القوى السياسية الأخرى التى تسيطر عليها مشاعر من العجز والخوف، وهو ما يظهر فى تصريحات تصدر أحيانا عن بعض رموزها تبشر بأن الإسلاميين هم القادمون.
●●●●
صور أربع يظهر فيها التناقض الذى يبعث على الإثارة السياسية، علمانيون يتحالفون مع أقباط وصوفيون، وإسلاميون أقل تناقضا مع نظام سابق وأكثر انفتاحا، وليبراليون أكثر تناقضا مع نظام سابق وأقل انفتاحا، وشارع تداعبه المليونيات، ولكن العبرة بصندوق الانتخاب!