قبل انعقاد دورة الألعاب الأولمبية الأخيرة فى باريس كنت أناقش صديقا فلسطينيا حول تطورات الأوضاع فى غزة وانتهينا إلى أن القضية الفلسطينية تعيش على بعض الدعم الذى صارت تحظى به من الحركات الطلابية فى الجامعات الأمريكية والأوروبية وهو تعاطف لم تعد تحظى به فى بعض العواصم العربية التى منعت المظاهرات تحسبا لامتداد آثارها إلى الشأن الداخلى حيث تعيش عواصم عديدة أوضاعا أمنية واجتماعية هشة تجعلها على المحك من جديد.
ولفتتنى أنا وصديقى تلك المفارقة التى تقول إن القضية العربية الأولى أضحت تعيش على دعم الآخر الغربى فى مقابل تراجع حضورها فى الداخل العربى وأفرطنا كثيرا فى التفاؤل حول مدى قدرة هذا الآخر على تخطى صور العنصرية والتعصب ثم جاءت دورة الألعاب الأولمبية الأخيرة فى باريس لتحبط توقعاتنا وتعزز الكثير من صور سوء الفهم المتبادل.
أثبتت الدورة بما لا يدع مجالا للشك أن العالم يعيش ردة حضارية مذهلة، فلم يعد فى استطاعته أن يبلغ الحد الأدنى من التوافق حول القيم الإنسانية المشتركة التى كانت فى الماضى محل إجماع وقادت نحو إقامة المناسبات والمهرجانات ذات الصفة العالمية سواء فى الرياضة أو الثقافة أو الفن.
فى ذلك الماضى الذى أصبحنا نحن إليه تحت سطوة النوستالجيا كانت تلك المناسبات وسيلة من وسائل إقرار القيم التى أقرتها منظمة اليونسكو حول التنوع الإنسانى الخلاق لكن هذا الشعار البراق لم يعد قادرًا على اكتساب أنصار جدد بسبب ارتفاع الأصوات اليمينية المؤيدة لكل حركات التطرف ذات النزعة العنصرية.
ساعد على ذلك أن العالم يفتقد إلى القادة والزعماء السياسيين والمفكرين الذين آمنوا حقا بفكرة التسامح الإنسانى ولم يعد أمامنا سوى أمثال دونالد ترامب نتنياهو وماكرون وهم من الصنف الأكثر استجابة لنزعات التطرف، والواضح أن الهجرات غير الشرعية ناحية أوروبا لعبت دورا سلبيا فى هذا الجانب بفضل عجز بعض المهاجرين عن الاندماج داخل منظومة القيم الغربية التى صاغت مثلها العليا انطلاقا من تصورات المركزية الغربية عن نفسها، كما أن الحركات الجهادية عززت من رغبة المجتمعات الأوروبية فى حماية نفسها من التأثيرات السلبية المتوقعة من الثقافات الوافدة وانهارت بالتالى جميع التصورات الفلسفية عن (اليوتوبيا) التى اقترنت بفكرة الحضارة ولم يعد أمامنا سوى تبادل أنخاب الخوف من الديستوبيا التى تشيع فى العالم حيث الشعور الدائم بسطوة المكان الخبيث.
والمؤكد أن ما جرى فى ملف الملاكمة الجزائرية إيمان خليف التى توجت بالميدالية الذهبية هو تأكيد جديد على نشوء عنصرية من نوع آخر لا تضيف لما اعتدنا عليه من صور العنصرية وإنما تمتد ناحية الإساءة إلى النوع الاجتماعى ذاته عبر تنميط قيم الجمال الأنثوى وحصرها فى مقاييس واحدة.
والمؤسف أكثر من أى شىء آخر أن وسائل التواصل الاجتماعى التى ولدت كإعلام بديل للإعلام الخاضع لصور الهيمنة والنفوذ أفرطت فى تعميق وتأكيد صور التنميط وسقطت فى الفخ بفضل تورط ناشطين إعلاميين مؤثرين فى حمى التهكم والاستجابة المبتذلة لنزعات التشهير، وعبرت الحملة غير الأخلاقية التى واجهتها الملاكمة الجزائرية بوضوح عن فجوة ثقافية يشهدها عالمنا اليوم كأن الحضارة البشرية لم تغادر حدود الغابة.