واجه العالم بعض الكوارث مثل الكوفيد التى أثرت سلبا على اقتصاده ناهيك عن الحروب المشتعلة فى عدة مناطق فى العالم. كل ذلك يجعل الحكومات فى كل دول العالم تجاهد حتى تجعل اقتصادها يتعافى وفى سبيل ذلك تطرق كل الطرق وتسلك كل السبل الممكنة. فى مقالنا اليوم سنتحدث عن طريق من الطرق التى لها تأثير كبير على الاقتصاد وهو طريق البحث العلمى.
قد يظن البعض أن العلاقة واضحة وهى أن البحث العلمى الجاد له تأثير إيجابى على الاقتصاد. هذه إجابة منقوصة ولا تعطى الصورة الكاملة، فمثلا يجب أن نعرف تأثير كل من العلم والتكنولوجيا على بعضهما ومن ثم على الاقتصاد، ويجب أن نعرف تكلفة البحث العلمى، ويجب أن نعرف عن أى بحث علمى نتكلم هل الأبحاث التطبيقية أم العلوم الأساسية، وما هى العوامل التى تجعل طريق البحث العلمى ممهدا للمساهمة الإيجابية فى الاقتصاد. سنحاول إلقاء الضوء على هذه النقاط فى هذا المقال.
...
التكنولوجيا هى الطريق الذى يسلكه العلم ليتمكن من حل مشكلة على أرض الواقع، بدون التكنولوجيا ستظل الأبحاث العلمية مجرد أبحاث حبيسة قاعات الدرس والمجلات العلمية والمؤتمرات المتخصصة.
لكن العلاقة بين التكنولوجيا والعلم هى علاقة متبادلة، فكما أن العلم يعطى التكنولوجيا الاكتشاف العلمى التى ستحوله التكنولوجيا إلى منتج أو خدمة فإن التكنولوجيا تعطى العلم أدوات متقدمة تسرع من الاكتشافات العلمية فمثلا:
• اختراع مثل الميكروسكوب يعتبر من أهم الوسائل التى ساعدت على اكتشاف ما يعرف بالجراثيم وتأثيرها على الصحة (germ theory).
• التكنولوجيا المعتمدة على الأشعة السينية (Xــray crystallography) هى من أهم الأدوات التى كان لها أكبر الأثر فى الاكتشافات العلمية مثل اكتشاف الـ DNA والكثير من الأدوية والبروتينات والفيتامينات، لن نكون مبالغين لو قلنا أن أكثر من 20 فائزا بجائزة نوبل اعتمد على تلك التكنولوجيا فى تجاربه.
القائمة تطول لكن تظل العلاقة متبادلة بين العلم والتكنولوجيا.
الأبحاث العلمية والتكنولوجية تنقسم إلى أبحاث تطبيقية وأبحاث فى العلوم الأساسية ولكل منها تأثيره الخاص على الاقتصاد.
...
الأبحاث التطبيقية هى التى تحل مشكلة موجودة على أرض الواقع، أى يمكننا أن نعتبرها أبحاثا تكنولوجية. هناك أمثلة كثيرة لتلك النوعية من الأبحاث: الدول التى تعانى من فقر مائى تحاول تطوير أبحاثها عن تحلية مياه البحار، الدول التى تفتقر إلى الوقود الأحفورى لكنها تمتلك جوا مشمسا تحاول تطوير أبحاثها لتطوير الخلايا الشمسية وكفاءتها إلخ، يمكن قياس توسع دولة ما فى هذه النوعية من الأبحاث عن طريق متابعة إعداد براءات الاختراع التى تسجلها تلك الدولة. براءات الاختراع هى فى النهاية بذور لشركات من الممكن أن تقود الاقتصاد للأمام.
تأثير هذه الأبحاث على الاقتصاد يأتى غالبا على المدى القصير أى من سنة إلى خمس سنوات، يكون التأثير إيجابيا على الاقتصاد ثم يبدأ هذا التأثير فى التناقص، نلاحظ ذلك على ظهور سلعة أو خدمة جديدة لأنها تكون غالية الثمن فى البداية ثم مع تعميمها يبدأ سعرها فى التناقص، فمثلا حساب تسلسل الجينوم (sequencing genomes) كان يتكلف 95 مليون دولار للجينوم سنة 2001 وأصبح يتكلف أقل من ألف دولار ونصف (!!) سنة 2015.
طبعا هناك ثمن يجب دفعه قبل أن تجنى الدولة ثمار الأبحاث التطبيقية:
• سيكون هناك دائما من يعارض تكنولوجيا جديدة لأنها ستؤثر سلبا على مكاسبه، مثلا تعميم استخدام السيارات الكهربائية وهى أكثر ملائمة للبيئة ستواجه معارضه من صناع السيارات العادية المعتمدة على الوقود الأحفورى.
• قد تكون هناك بعض التأثيرات السلبية من تعميم استخدام تكنولوجيا ما، مثلا تعميم استخدام السيارات ذاتية القيادة سيؤدى إلى فقدان الكثيرين ممن يمتهنون مهنة القيادة لوظائفهم. تلك السيارات إذا تم استخدامها على نطاق واسع ستقلل من الحوادث والاختناقات المرورية ونفقات النقل للأشخاص والبضائع.
هذا عن الأبحاث التطبيقية، فماذا عن الأبحاث فى العلوم الأساسية؟
...
الأبحاث فى العلوم الأساسية لا تنبع من وجود مشكلة تبحث عن حل لكن القاطرة الأساسية لتلك الأبحاث هى الفضول العلمى ومحاولة فهم الكون حولنا، من أهم الأمثلة لتلك الأبحاث هى الأبحاث التى قادت إلى تكنولوجيا الـ mRNA والتى كان لها أكبر الأثر فى الوصول للقاح ناجح لفيروس الكورونا. هناك الكثيرون يرون أن القرن الحادى والعشرين هو قرن البيولوجيا دون منازع مع وجود mRNA وأيضا تكنولوجيا الـ CRISPR والتى يمكنها عمل تعديلات فى الجينات (تلخيص مخل هنا لكنه يفى بالغرض) هى مجرد إرهاصات لما سيحدث فى هذا المجال.
تلك النوعية من الأبحاث العلمية لا يأتى تأثيرها إلا على المدى الطويل لأنه يحتاج إلى تضافر عدة عوامل أخرى حتى يكون له تأثير على حياة الناس ومن ثم الاقتصاد. هناك عدة ملاحظات تلقى الضوء على تأثير الأبحاث العلمية فى العلوم الأساسية على الاقتصاد:
• الاكتشاف العلمى الواحد قد يساعد فى عدة تكنولوجيات وليس تكنولوجيا واحدة وبالتالى يكون تأثيره على الاقتصاد أقوى من الأبحاث التطبيقية.
• عندما يتعلق الأمر بالعلوم الأساسية فإن العرض يخلق الطلب.
• الدول الكبرى فقط هى التى تستطيع تمويل هذه النوعية من الأبحاث التى لن يظهر تأثيرها إلا على المدى البعيد.
• الطريق للوصول من العلم للتكنولوجيا يحتاج تضافر جهود الدولة مع القطاع الخاص لأن كل منها على حدة لن تستطيع المغامرة.
ماذا نستطيع عمله فى مصر حيال كل ذلك؟
...
لا نريد أن نظل على مقعد المتفرجين ونقتات على الفتات العلمية التى تعطيه لنا الدول المتقدمة علميا، هناك الكثير الذى نستطيع عمله:
• التركيز على الأبحاث التطبيقية فى الوقت الحالى.
• إنشاء مجموعات عمل فى مختلف فروع العلوم الأساسية تكون مهمتها متابعة أحدث الأبحاث فى تلك الفروع والتفكير فى كيفية تحويلها إلى تكنولوجيا.
• عقد جلسات عمل بين تلك المجموعات ومدرسين العلوم فى المدارس لتحديث معلوماتهم وبذلك نتيح للطلاب معرفة أحدث الأبحاث بطرق مبسطة.
• إزالة أى عقبات بيروقراطية فى طريق تمويل الأبحاث العلمية والخدمات التكنولوجية.
مصر تعتبر من أعلى الدول فى نسبة الشباب، أى النسبة من السكان التى تستطيع العمل، وهذا معناه أن عندنا بذور للكثير من العلماء والباحثين وما علينا إلا رعايتهم.