مع اندلاع ثورة 25 يناير، يبدو أن أجهزة الدولة قد حصلت على إجازة إجبارية طويلة منعتها من ممارسة عملها، خاصة فى القضايا التى تتعلق بالأمن القومى وبمستقبلنا السياسى وبمؤسساتنا الجديدة التى نريد أن نبنيها على أسس من الحرية والنزاهة.
ففى ظروف تبدو غامضة، أحجمت هذه الأجهزة عن التحقيق فى الاتهامات المتبادلة بين الفرقاء السياسيين بحصولهم على ملايين الدولارات من الخارج لتمويل نشاطاتهم وحملاتهم الانتخابية، فحتى الآن لم تحرك هذه الأجهزة ساكنا فى اتهامات نجيب ساويرس لحزبى الحرية والعدالة والنور بتلقيهما ملايين الدولارات من قطر والسعودية، أو فى اتهام مصادر اسلامية لواشنطن بتقديم 200 مليون دولار لأحزاب ونشطاء ينتمون لتيارات ليبرالية، أو فى الاتهامات التى وجهها مسئولون بالمجلس العسكرى لعناصر بحركة 6 أبريل بتلقى تمويلات ضخمة من الخارج، وأن مخابرات أجنبية تشارك فى تصعيد الصدامات الطائفية والاشتباكات بين الأمن والمتظاهرين.
بنفس المنطق، تجاهل المجلس وحكوماته المختلفة كل المخالفات الجسيمة فى المرحلة الأولى من الانتخابات، سواء بتجاوز معظم المرشحين للسقف المالى المحدد للدعاية، وغموض مصادر تمويلها،وتقديم رشاوى انتخابية فى معظم الدوائر، وعدم احترام فترة الصمت الانتخابى، واستخدام المساجد فى الدعاية لبعض المرشحين، مع التجاهل التام أيضا لما يتردد عن مطالبة الكنيسة لرعاياها بانتخاب مرشحين بعينهم..
ومع أن لا أحد ينكر بأن المزاج العام للكثير من الاعتبارات يصب فى مصلحة فوز حزبى الحرية والعدالة والنور بأغلبية الاصوات فى المرحلة الأولى للانتخابات، إلا ان هذا لا يعفى السلطات المعنية من توقيع العقوبات على مخالفى قانون الانتخابات والضوابط المنظمة له، حتى لو كان المخالفون ينتمون للإخوان أو الكنيسة أو الليبراليين، ومهما كان حجم الأصوات التى حصلوا عليها، وإلا ما كان ينبغى أن نضع هذه الضوابط من الأساس.
ما يثير الريبة أن تجاهل السلطات فى مصر لهذه المخالفات الانتخابية يصب فى مصلحة قوى بعينها لاتزال تواصل حتى الآن حملاتها لتشويه منافسيهم، منذ ادعائها أن التصويت على الدستور أولا هو تصويت ضد الدين ويستهدف حذف المادة الثانية من الدستور، رغم يقين هذه القوى ان هذه المادة هى محل قبول واحترام الجميع وعلى رأسهم الكنيسة نفسها..!
قد تتكرر فى انتخابات الغد هذه المخالفات ــ أو بالأحرى ــ هذه الجرائم الانتخابية، وقد تستمر محاولات الطبالين والزمارين لاخفائها خلف مشهد الفرحة بطوابير الناخبين أمام اللجان ،ليفوزوا هم بكل المغانم والهبات، وليتركوا خلفهم برلمانا مشوها يعيد إنتاج برلمانات مبارك وسياساته بتعديلات طفيفة.. وكأن الثورة لم تقم بعد!