تجمعت لدى حصيلة مجموعة كبيرة من التجارب، سواء العائلية، أو التى مر بها أصدقاء أو معارف أصيبوا بفيروس «كورونا» المستجد المعروف علميا وعالميا باسم «كوفيد 19»، وشفاهم الله منه. وفى البداية حاولت أن أقارن فيما بين تلك التجارب للنظر فى أوجه التقارب أو الاختلاف فيما بينها باعتبارها تجارب ذاتية إنسانية، إلا أننى بعد وهلة قصيرة أدركت أن مسائل التقارب والاختلاف لا تعكس اعتبارات شخصية فقط، بل إن لها علاقة وثيقة بالإطار الاجتماعى والثقافى الذى حدثت الإصابة بالفيروس لهذا الشخص أو ذاك، ومروره بتجربة العلاج فى سياقه. ولا أعنى هنا على الإطلاق هوية المصاب أو الجنسية التى يحملها بقدر ما أعنى أى مجتمع كان يقيم فيه عندما تعرض للإصابة ومر بتجربة العلاج. كما أننى هنا أيضا لا أتعرض لتصنيف هذه المجتمعات ما بين بلدان الشمال والجنوب، كما اعتمدت فى تحليلى لموضوعات متصلة بالانعكاسات الاجتماعية والثقافية لفيروس «كورونا» المستجد، كما فعلت فى مقالات سابقة، بل إننى هنا معنى بظواهر مجتمعية معينة تتقاطع وتتداخل الخطوط فيها بين بلدان متقدمة وأخرى بازغة وثالثة نامية ورابعة أقل نموا.
فقد ثبت أن التباين ما بين المجتمعات فى نمط تعاملها مع الفيروس كان له دوره وتأثيره، حتى وإن زاد أو قل ما بين حالة وأخرى، على تجربة المصاب بالفيروس فى التعامل مع إصابته وفى السعى نحو العلاج منه فى أقرب وقت وعلى أكمل وجه وبأسهل الطرق وأقلها تكلفة. وتراوح هذا التباين ما بين موقف الجهات الحكومية والمجتمعية الأخرى من التعامل مع الفيروس وكذلك مواقف وسائل الإعلام على مختلف أنواعها من التعامل مع الفيروس، وأيضا سبل تعاطى الثقافات الاجتماعية المختلفة مع هذا الوباء اللعين. ومرة أخرى نؤكد أن التباينات المذكورة ليست ناتجة عن مقدار التقدم الاقتصادى لأى دولة أو مجتمع بقدر ما تعكس فيه اختلافا فى الثقافة الاجتماعية السائدة من جهة وجدية التعامل الإعلامى مع الوباء من جهة ثانية وطبيعة الإجراءات الحكومية والمجتمعية المتخذة لمواجهة الوباء من جهة ثالثة، ثم ردود فعل رجل الشارع العادى تجاه الوباء من جهة رابعة وأخيرة.
فهناك مفارقة فى مدى دعم البيئة المحيطة بالمصاب بالفيروس له فى القدرة على مواجهته والتغلب عليه. وهنا على سبيل المثال نرى أن وسائل الإعلام لها دورها الهام، ولكنه دور يختلف ما بين مجتمع وآخر، فهناك مجتمعات وسائل الإعلام فيها تبقى دائما على استمرار وتواصل التوعية ليس فقط بأخطار الفيروس بل أيضا للتعريف بالسبل الضرورية للوقاية منه والتعليمات اللازم اتباعها لهذه الغاية، وهناك، على الجانب الآخر، مجتمعات تتعامل فيها وسائل الإعلام فيها وكأن الفيروس قد اختفى من الوجود ولا تجد أى نوع من التحذير من مخاطر انتشار الوباء أو التوعية بطرق تجنبه، وهناك مجتمعات ثالثة نجد وسائل الإعلام فيها مكتظة بالإعلانات التجارية المدفوعة الأجر عن منتجات المفترض أنها إما تساعد على تجنب الإصابة بالفيروس أو تساعد على العلاج منه، وبالطبع تلك هى ثلاث نماذج مختلفة عن بعضها البعض، ولكن هناك أيضا درجات بين هذا وذاك أو ما يجمع بين خصائص أكثر من نموذج فيما يتعلق بدور وسائل الإعلام فيما يتعلق بالوباء وبالمصابين به.
ومن جانب آخر، فإن الثقافة الاجتماعية السائدة تؤثر بدورها على تعامل المصاب بالفيروس مع حالته الصحية ومدى ارتفاع أو انخفاض حالته المعنوية الداخلية، ففى بعض المجتمعات تتسم الثقافة الاجتماعية بالحرص على توفير الدعم للمصابين، وذلك من خلال سعى المجتمع المدنى ومؤسساته إلى تقديم المساندة الفعلية للمصابين بالفيروس، وهو الأمر الذى يأخذ عدة أشكال وصور مثل تطوع البعض، خاصة من الشباب، لإيصال الاحتياجات الغذائية والدوائية والعلاجية المختلفة للمصابين فى منازلهم، أو تمويل منظمات غير حكومية لمرتبات العاملين للقيام بهذه المهمة فى حالة عدم وجود متطوعين للقيام بهذه المهام بدون أجر، كما أن الدعم للمصاب فى مثل هذه المجتمعات يتمثل فى إلزام والتزام الجميع الجدى بالإجراءات الاحترازية المرتبطة بفيروس «كوفيد 19»، مثل ارتداء الكمامات والحفاظ على التباعد الاجتماعى والاستخدام الكثيف للمطهرات وغسل اليدين بالماء الساخن والصابون بشكل مستمر وغيرها، كل ذلك يوفر شعورا لدى المريض ومن حوله بقدر من الحماية لمن هو غير مصاب وإحساس بعدم انتقال العدوى ممن هو مصاب، وبالتالى عدم تولد أى شعور بالذنب لدى المصاب.
وفى مقابل تلك الحالة النموذجية المذكورة فى الفقرة السابقة، فإن هناك على النقيض من ذلك تماما مجتمعات تتسم الثقافة الاجتماعية السائدة فيها بحالة من اللا مبالاة تجاه انتشار الفيروس ومخاطره، وهنا مرة أخرى يتعين عدم الخلط بين اعتبارات الفقر أو الغنى، سواء ما بين المجتمعات أو فى داخل المجتمع الواحد، لأن المقصود هو الثقافة الاجتماعية التى تعكس مدى الوعى لدى الأفراد والجماعات من جهة ومدى وجود جهود توعية من أجهزة الدولة المعنية ووسائل الإعلام الموجودة من جهة ثانية ومدى الاستجابة لتلك الجهود، حال وجودها، من جانب الأفراد والجماعات من جهة ثالثة. ومن تجليات حالة اللا مبالاة السائدة فى هذا المثال من المجتمعات عدم الالتزام بالإجراءات الاحترازية إلا إذا كان الشخص مضطرا، وحتى فى هذه الحالات، فإن الشخص يسعى قدر الإمكان إلى التحايل على تلك الإجراءات، فى ضوء سيادة قيم عدم الالتزام وعدم الانضباط عادة فى مثل هذه المجتمعات. وبالإضافة إلى مشاعر اللا مبالاة تلك، فإن مثل هذه الثقافات الاجتماعية تتعامل مع المصاب بالفيروس على أنه منبوذ من المجتمع ويتعين الابتعاد عنه لتجنب العدوى منه، ولا توجد أطر مجتمعية لمد يد العون للمصابين وذويهم، وإنما تقتصر سبل المساعدة لهم على الأطر الاجتماعية التقليدية، مثل الأسرة والعائلة الممتدة وربما فى بعض الحالات الجيران، مع إمكانية وجود حالات تعاطف شفهى خارج حدود هذه الأطر ولكن مع تجنب أى تفاعل مباشر مع المصاب أو المخالطين له من أفراد أسرته وغيرهم تجنبا للعدوى بالفيروس.
وبالطبع فإن هناك الكثير من المجتمعات التى تقع فى مكان ما بين هذين النموذجين المتناقضين تقريبا والمذكورين فيما سبق بشأن تعامل الثقافات الاجتماعية السائدة مع الفيروس والمصابين به، أو تجمع بين بعض خصائص النموذجين، وهو نفس ما ذكرناه من قبل بالنسبة لنماذج تعامل وسائل الإعلام مع الفيروس ومع المصابين به.
وننتقل هنا إلى تناول مكون ثالث من مكونات تعامل البيئة المحيطة مع الفيروس والمصابين به، وأقصد هنا دور أجهزة الدولة المعنية فى المجتمعات التى يقيم فيها المصابون، على تنوعها، وهو دور له أبعاد متعددة: فمن جهة يتضمن حملات التوعية الشاملة بمخاطر الفيروس وبما يجب أن يقوم به من أصيب بالفعل للفيروس وما يجب أن يقوم به أو أن يتجنبه من لم يصب بالفيروس حتى لا يصاب به، وتوجيه هذه التوعية عبر وسائل الإعلام أو من خلال قنوات أخرى، سواء تمتلكها الدولة أو تكون بحوزة المجتمع المدنى ومؤسساته، كما أن هناك دور الدولة فى فرض تنفيذ الإجراءات الاحترازية المذكورة فيما سبق من خلال إلزام المواطنين والمقيمين بهذه الإجراءات فى أكبر عدد ممكن من الأماكن العامة، إن لم يكن كلها، بل وحتى الأماكن الخاصة التى يختلط فيها البشر، لتجنب انتشار الوباء، وربط هذا الإلزام بوسائل إنفاذ ناجعة يكون من شأنها ضمان أخذ الأفراد هذه التعليمات على محمل الجد، كذلك لأجهزة الدولة المعنية دور أساسى فى توفير سبل الرعاية والعلاج للمصابين بالفيروس فى المستشفيات والعيادات العامة والخاصة وتسهيل توافر الأدوية المطلوبة للعلاج على نطاق واسع داخل المؤسسات العلاجية العامة والخاصة والصيدليات على حد سواء.
وهكذا نرى أن الإصابة بفيروس «كورونا» المستجد لا يكون مجرد تجربة شخصية وذاتية للمريض فقط، ولا حتى للمريض وجواره المباشر من أسرة وأقارب وجيران، بل هى تجربة أيضا تنتج عن تفاعل بين المريض والبيئة المجتمعية المحيطة به، خاصة وسائل الإعلام على تنوعها، والثقافة الاجتماعية السائدة، ودور الأجهزة المعنية فى الدولة التى يقيم بها المصاب.