رائحة لونها برتقالى - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 1:12 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رائحة لونها برتقالى

نشر فى : الأربعاء 14 فبراير 2018 - 11:05 م | آخر تحديث : الأربعاء 14 فبراير 2018 - 11:05 م

كثيرا ما أتساءل ما هى أكثر حاسة من الحواس الخمس ارتباطا بالذاكرة، ما هى أكثرها قدرة على فتح ذلك الباب العتيق الموصد بعزم ليمنع طوفان الحنين والشجن من اجتياح اللحظة، أتساءل أحيانا بغية التأكد أن الباب مغلق بإحكام، وأحيانا أخرى بهدف شق الباب قليلا حتى يتسنى لصور باهتة أن تتسلل إلى.

***
أهى حاسة البصر التى تصور كالكاميرا حياتى وتصنف الصور فى ملفات أحتفظ بها فى ذاكرتى فأسحب منها ما أريد أو تقرر ذاكرتى أن تفاجئنى بوجوه قد لا أتذكرها للحظات ثم سرعان ما أسمع أصوات أصحابها؟ أم هى حاسة السمع التى تدغدغ أذنى بأغنية كانت مقدمة لبرنامج أطفال علمنى فى صغرى أن أنطق لغة الضاد بطريقة لا أظن أننى كنت سأنطقها بالشكل نفسه إن لم أغنى الكلمات دون حتى أن أفهمها فى وقتها؟ ربما هى حاسة اللمس التى أتحسس بها صندوقا خشبيا قديما نقشت على سطحه كلمات بالحروف الكوفية كنت أحاول أن أقرأها دون أن أنظر إليها، لا، أظن أن التذوق قد يكون حاستى الأقوى فأنا أكاد أخرج من جسدى حين تذوب فوق لسانى قطعة من البوظة العربية المشبعة بالمستكة وماء الزهر.

***
الشم هى قطعا حاستى الطاغية، هى الحاسة التى لا يمكن أن أقاوم أثرها فأيديها تلتف حولى كأخطبوط يحاصرنى، تدخل الرائحة إلى أنفى دون استئذان فتهز توازنى، رائحة سكرية تذكرنى بإحدى الأقارب، نعم تذكرنى بعطر كنت أشم فيه رائحة كعك العيد، بقايا زيت الزيتون فى صابونة الغار هى جدتى، رائحة الورق حين يخرج من الطابعة هو والدى فى مكتبه، أما القهوة، يا الله، هى صباحات لا أميزها إنما أعرف أن من حضرها هن صديقات أمى أو أقارب أبى، القهوة هى رائحة يوم عادى بديع فى ترتيبه، يوم مثل كل الأيام التى تتالت على حياتى، فلا صباح ممكن أصلا دون القهوة.
***
حين أعطانى صديق أخيرا صندوقا من البرتقال المر، أو النارنج كما نسميه فى الشام، توقف بى الزمن ولم أعد هنا، شتاء دمشق المحمل بأشجار الحمضيات، حلوى الأرز بالحليب التى كانت جدتى تغلى فيها ورقة برتقال بدل الفانيليا التى نستخدمها اليوم، وسنوات من المربى الذى صنعته أمى أمام شباك المطبخ فتجمع البخار عند السقف وظهرت قطرات كالندى على الحائط خلف موقد النار. لم أعد أرى صديقى أو أسمعه، انسحب المكان من تحت قدمى وعدت إلى بيت جدتى وهى كمعظم الجدات فى دمشق كان لعمل المربى عندها طقوس تكاد تكون مقدسة.
حملت الصندوق عائدة به إلى بيتى فى القاهرة. معى كنز لا أعرف كيف أخفى فرحى به. معى صندوق حين أفتحه سوف يطل على منه وجه أمى وجدتى معا. معى برتقال مر تتبارى سيدات دمشق بالمربى الذى يستخرجنه منه عاقدات إياه فى السكر. مربى النارنج مادة للتنافس فى الحارات الدمشقية وموضوع صباحات بأكلمها تعطر حيطانها رائحة القهوة التى تمر بين الأحاديث.

***

وقفت فى مطبخى أشم يداى بعد أن قطعت النارنج واعدة نفسى أننى لن أغسلها حتى لا تختفى الرائحة وتختفى معها تيتة، استرجعت نقاشات طويلة من ملف فى ذاكرتى كنت قد استرقت السمع إليها وأنا أدعى الدراسة منذ سنوات مضت بمن فيها من وجوه وأصوات، ما هى كمية السكر التى يجب أن أضعها فى الأول؟ متى أطفئ النار تحت إناء النارنج ومتى أعيد إشعالها؟ قريبة لوالدى كانت تصف «الست الكسلانة» بأنها تكتفى بغلى الفاكهة فى السكر لعدة ساعات بينما الأصول، كما كانت تصر القريبة، هو أن يتم إطفاء النار وإعادة وضعها عدة مرات تحت الإناء مع الانتظار أن يبرد المحتوى فى كل مرة، ها أنا أقف هناك، أنظر إلى الإناء وأشم رائحة السكر وهو يختلظ بالفاكهة الحمضية. أنا طالبة فى المدرسة فرشت كتبى على طاولة المطبخ وأنظر إلى ظهر أمى فهى تقف أمام النار وظهرها لى.

***

هنا فى القاهرة يلمع اللون البرتقالى فى الإناء وأنا أحدق فيه. أتذكر حين كنت أتبارى مع شخص آخر على التحديق لأطول وقت ممكن فى العينى حتى يتوقف أحدنا فيخسر. لا أستطيع أن أرفع بصرى عن البرتقال الذى بدأ ينعقد فوق النار بعد أن ذاب السكر من حوله. الرائحة تغلفنى أم تراه صوت جدتى وهى تصف لقريباتها بستان البرتقال الذى قطفت منه الفاكهة قبل أن تأتى بها إلى مطبخها؟ أضع نقطة سكر معقود على يدى وأنفخ عليها حتى تبرد قبل أن ألحسها. يا لجمال الطعم، كيف يعيش البعض دون مربى النارنج؟ كيف يكملون حياتهم دون أن يمتعوا حواسهم جميعها بهذه المعجزة؟ كل شىء من حولى برتقالى، كل شىء من حولى تحول إلى بعد ظهر يوم بارد قررت فيه أمى أن تأخذ موعد غرام مع النارنج، بينما أقف أنا فى مدينة أخرى أستحضر فيها أرواح الكثيرين ممن ذهبوا بعد أن ملؤوا أوانى وقلوب بالمربى والحب.

****

حاسة الشم لونها برتقالى، وهى الحاسة الطاغية فى حياتى، تدخل إلى أعماقى فتحيى جدتى التى توفت وتعيد إلى بعضا من نفسى. أصب المربى فى إناء شفاف، أنظر إليه بشغف، وأهمس له كلمات الحب بلهجة شامية عتيقة، ربما اختفت هى الأخرى اليوم. أنا والنارنج كحبيبين التقيا أخيرا بعد غياب.
كاتبة سورية

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات