نشر موقع درج للكاتبة ميساء بلال مقالا بتاريخ 5 يونيو، تناولت فيه تأثرها بشخصية طفلتها المتمردة أثناء محاولة رسم ملامح شخصيتها بطريقة مشابهة لها دون عيوب.. نعرض منه ما يلى.حلمت بهذه الطفلة كثيرا. شكلتها فى عقلى آلاف المرات قبل أن ترى النور. فكرت بكل تفاصيلها وكنت أحصى أصابع قدميها قبل أن أنام. طبختُ أحلامى ومستقبلها ببهارات استقدمتها من بلاد لم يطأها أحد. ثم ألغيت كل خططى بمجرد قدومها. فرضتْ على نزواتها من الصرخة الأولى. وبدأت قصة حياتى تأخذ منحى جديدا.
فى المدرسة شكت المدرسات من أنها تثرثر كثيرا. لم أكن أصدق ذلك لأنها فى البيت لا تكلمنى أبدا. ربما كانت تقلد صمتى؟ تمنيت ذلك فأنا قليلة الكلام. دافعت عنها وعن مواقفها دون أن أتحقق من عدالتها. جعلت من شعورها بالرضا والسعادة هدفى فى الحياة. كنت أشكل منها «أنا» جديدة، «أنا» شابة وخالية من عيوبى.
لكن ابنتى لم تشبهنى فى شىء. لماذا لا تحب المدرسة؟ لماذا لا تبرع فى الرياضيات؟ لماذا لا تحب رائحة الكتب المدرسية؟ لماذا تغير صديقاتها طوال الوقت؟ لماذا لا تحب خواتمى وأساورى؟ لماذا تسمى معطف الفراء الذى أريد أن أورثها إياه بكل فخر «الحيوان المقتول»؟ لماذا لا تحب رائحة الكزبرة مع الثوم فى طبخات الصيف؟
فى دمشق، حيث رأيتُ النور، هناك سلسلة من البنات والأمهات والجدات تمتد إلى آلاف السنين. سلسلة تفخر بأنها تكرر نفسها فى كل جيل. تكرر الأخلاق والطاعات، تكرر المطبخ و«الكبب والمحاشى»، ولا تريد أن تضيف أى شىء على أى شىء. مقتنعة بأن كل شىء كامل بأصله. وكل إضافة تنتقص منه ولا تضيف إليه. وكنا لا نعترض على أى تفصيل. هذا هو التراث الذى ثارت عليه ابنتى ورفضته بكل إصرار وقناعة.
بدأت تتعثر فى تقاطعاتها الشاقة مرة تلو الأخرى. حاولت أن أمنعها بشتى الطرق لكنها غلبتنى. فاخترت أن أبقى وراءها مراقبة قلقة لانطلاقتها المثيرة والمرعبة. أحمل أسلحتى وأنتظر أن تطلب المساعدة. علمتنى أن أشجع خياراتها دون اعتراض. علمتنى كيف أبقى دوما بحالة ترقب واستعداد لأن مفاجآتها لم تكن تنتهى. وهيامى بشخصيتها لم يعد يعرف حدودا.
لقد علمتنى أن الطريق الذى تشقه هو طريق النساء الوحيد نحو الكرامة وأننى برغم تضحية السنين الطويلة ما زال أمامى مهمات يجب أن أنجزها لا تتلخص فى إنشاء أسرة تقليدية سعيدة.
وبدأت أفكر فى تقصيرى وجبنى. وبدأت أرتب أولوياتى من جديد. ولم تعد الحياة قدرا، صارت الحياة تحديا أواجهه كل صباح بخطة جديدة.
والآن عندما أقرأ أشعارها، بلغة لا أتقنها تماما، أشعر بأنها تكتب كلماتى. وعندما نلتقى ونتكلم بهذه الحماسة عن نص قرأناه أو فيلم شاهدناه، أتيقن أننا متماثلتان إلى حد التطابق. وعندما تهاجمها الدموع لأسباب سخيفة أنظر إلى وجهها وكأننى أرى مرآتى. وعندما تقودنا أقدامنا إلى مكتبة، أى مكتبة، ونضيع بين رفوف الكتب ونبدأ بحساب ميزانيتنا المتواضعة ونعيد بعض ما جمعناه ونتبادل نظرات حزينة، أعرف أننا رفيقات درب ومصير.
لكننى وأنا أدور فى هذه الحلقة المفرغة ما زلت أحلم بابنة مطيعة كنتها لأمى فى يوم من الأيام. وأحلم بأحفاد يشبهوننى أعلمهم السباحة على الشاطئ فى الإجازات الصيفية وأحضر لهم أطباقا تقليدية وقد أضيف عليها الكزبرة مع الثوم وقد يحبونها.
النص الأصلى