لو صحت الشائعات أو التكهنات التى تزعم أن القرار الذى أصدره الرئيس عبدالفتاح السيسى منذ عدة أيام، ويجيز له إقالة رؤساء الجهات الرقابية والهيئات المستقلة فى حالة وجود دلائل على ارتكابهم ما يمس أمن البلاد وسلامتها، يستهدف الإطاحة بالمستشار هشام جنينة رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات من منصبه، فإننا سنبتعد فى هذه الحالة خطوات كبيرة عن دولة المؤسسات، وعن قيم الديمقراطية، وماتبقى من شعارات ثورة يناير.
ما يزيد من سخونة هذه الشائعات أن المستشار جنينة شخصيا تلاحقه أقاويل – قد تكون صحيحة أو مبالغا فيها أو حتى كاذبة – بأنه إخوانى الهوى، أو أنه « مش إخوان بس بيحترمهم»، وأن الذى عينه فى منصبه الرفيع هو الرئيس المعزول محمد مرسى، إلا أن كل ذلك لن يقدم أى مبرر منطقى واحد لإقالته، فالرجل نفسه نفى بوضوح انتماءه للإخوان، والأكثر من ذلك، فإن الرئيس السيسى نفسه تم تعيينه وزيرا للدفاع فى عهد مرسى، وكان هو الرجل الذى حمل رأسه فوق كتفه ليقود معركة الشعب المصرى للتخلص من جحيم الإخوان، ومن مؤامراتهم على البلد !
ومع ذلك، قد تكون هناك أسباب وجيهة لا نعلمها تستدعى إقالة جنينة، وقد يكون الرجل إخوانيا فعلا، بل وحتى عضوا فى مكتب الإرشاد، وقد يكون هو المرشد الحقيقى، لكن الإجراء الصحيح الوحيد الذى ينبغى اتخاذه قبل إقالته، هو فتح تحقيقات نزيهة وجادة بشأن تصريحاته حول اكتشاف مخالفات فى وزارة الداخلية تتعدى مليارات الجنيهات، وأن هناك جهات رقابية متورطة فى الفساد، بالإضافة إلى تصريحاته النارية حول أن نادى القضاة ليس فوق القانون، والتى أشعلت مناوشات ساخنة مع المستشار أحمد الزند وزير العدل حينما كان رئيسا للنادى، وإثارته لقضية الحزام الأخضر والتى تمس العديد من قيادات أجهزة الدولة الكبرى، وغيرها من وقائع الفساد التى تتعلق بالكثير من القطاعات .
ما قاله جنينة، يعيد إلى ذاكرتنا السياسية، تاريخا لا نريد أن نكرره، كان حافلا بالجرائم المفجعة التى ارتكبتها مؤسسة الفساد فى مصر، برجالها الكبار الذين كانوا يحمونها ويباركونها، بداية من سنوات حكم السادات حتى ترعرعت وتوغلت فى عهد مبارك، وانتشرت صعودا وهبوطا آنذاك من المحليات حتى مؤسسة الرئاسة نفسها، فى مناخ حققت فيه شلة المنتفعين والمحاسيب حول الرئيس المليارات من الأموال الحرام، دون أن يجرؤ جهاز المحاسبات آنذاك على التحقيق فيها، أواضطرار قياداته لدفن قضايا عديدة فى الأدراج بقرارات عليا!
وحتى لوبقى جنينة فى منصبه، وكانت الشائعات حول إقالته مجرد سخافات لا أصل لها ولا فصل، فإنه بدون فتح الملفات التى أثارها، فسوف تشهد بورصة الشائعات حول عودة طاحونة الفساد للعمل بكل همة ونشاط، رواجا كبيرا تنتقص من سمعة الحكم وشعبيته، ومن انتمائه لثورة يناير وسعيها لبناء حكم رشيد فى مصر، وهى أمور نحن فى غنى عنها الآن، فى وقت نحارب فيه قوى الإرهاب التى تسعى بكل خسة للتآمرعلى ثورتى يناير ويونيو .
توقيت إصدارهذا القرار الجمهورى يثير الكثير من علامات الاستفهام، ويتطلب من مؤسسة الرئاسة إصدار توضيحات شافية وكافية حول المغزى منه، وهل له علاقة بمعركة جنينة – الزند أم لا؟ وهل له علاقة بالأساس بالمستشار جنينة أم أنه يستهدف تلاشى أوجه قصور معينة فى هذا الجهاز الرقابى أو ذاك، أو هذه الهيئة أو تلك.. أيا كان الأمر، من حقنا على الرئيس أن يوضح لنا، بمنتهى الصراحة والشفافية، الهدف الحقيقى من إصداره لهذا القرار المثير للجدل، والقلق أيضا !