نشر موقع درج مقالا بتاريخ 11 أغسطس للكاتب ماجد كيالى تناول فيه مدى احتياج الشعب الفلسطينى وقياداته إلى استراتيجية سياسية وكفاحية واضحة لترك دور الخاسر ــ فى حروبه ــ للعدو الغاشم... نعرض من المقال ما يلى:
بمناسبة الحرب التى شنتها إسرائيل على غزة، ثمة ملاحظات أساسية:
أتت تلك الحرب بعد تجربة قاسية ومريرة وباهظة للشعب الفلسطينى فى أربع حروب وحشية ومدمرة، شنتها إسرائيل عليه (2008، و2012، و2014، و2021)، وكلها ذهب ضحيتها حوالى 5000 من فلسطينيى وفلسطينيات القطاع، معظمهم من الشباب، مع إصابة عشرات الألوف بجروح مختلفة (ضمنهم ضحايا الرصاص الإسرائيلى فى تجربة مسيرات «العودة» عامى 2018 ـ 2019)، هذا إضافة إلى تدمير معظم البنى التحتية وعشرات ألوف المنازل.
معلوم أن قطاع غزة، الذى يقطنه مليونان من الفلسطينيين (من المناطق الأعلى كثافة فى العالم)، يفتقد إلى الموارد (الماء والكهرباء والمحروقات والمواد الطبية ومواد الإعمار)، ونسبة البطالة والفقر فيه عالية جدا، ويبلغ دخل الفرد فيه 1200 دولار سنويا، وهذا ثلث دخل الفرد فى الضفة الغربية (متوسط دخل الفرد فى إسرائيل 51 ألف دولار)، وطبعا إسرائيل هى التى تتحمل المسئولية الأساسية عن ذلك، باعتداءاتها على القطاع وحصارها له منذ 15 عاما (2007)، مع مسئولية فلسطينية، ضمنها السلطة التى تدير القطاع.
كيف شرذمت إسرائيل الفلسطينيين؟
استطاعت إسرائيل، طوال الفترة الماضية، فصل فلسطينيى الضفة عن فلسطينيى القطاع، لكن ذلك حدث، أيضا، بسبب الانقسام الفلسطينى، إذ هناك سلطة فتح فى الضفة، وسلطة حماس فى غزة، وهذا يضاف إلى الوضع الخاص لفلسطينيى القدس، الذين هم تحت السلطة الإسرائيلية، إضافة إلى الوضع الخاص للفلسطينيين فى إسرائيل. أى إن إسرائيل استطاعت تقسيم وتجزئة الشعب الفلسطينى، واستطاعت أيضا خلق أوهام حول أولويات أو خصائص كل تجمع، فاقم من ذلك افتقاد الفلسطينيين لرؤية وطنية جامعة، واستراتيجية سياسية واضحة، كما فاقم منه تحول الحركة الوطنية الفلسطينية من حركة تحرر وطنى إلى سلطة.
وأضاف الكاتب أن رغم التجربة الغنية والطويلة، ما زال الفلسطينيون يفتقدون لاستراتيجية سياسية ونضالية مناسبة، وواضحة، ومجدية، لخوض صراعهم مع إسرائيل، بما يمكنهم من استثمار كفاحهم وتضحياتهم وبطولاتهم لانتزاع حقوقهم، وذلك بحكم تخلف قياداتهم، وترهل كياناتهم السياسية، وضعف مراجعتهم لتجربتهم الكفاحية الغنية والمعقدة والباهظة، وتبرمهم من نقد أوضاعهم، وكلها أمور فاقم منها تحول حركتهم الوطنية من حركة تحرر وطنى إلى سلطة، قبل إنهاء الاحتلال، وضمنه سلطة تنسق مع الاحتلال (فى سابقة تاريخية فريدة من نوعها فى العالم)، إلى درجة بات يصح القول معها بأن الفلسطينيين قبل إقامة تلك السلطة كانوا أكثر وحدة وتحررا وجرأة فى صراعهم ضد إسرائيل وسياساتهم منهم بعد إقامة تلك السلطة.
مزايدات الفصائل
فى الأيام الماضية تم ترويج ما يفيد أن إسرائيل تعهدت بالإفراج عن قياديين من حركة الجهاد معتقلين لديها، باعتباره، بين تفاهمات أخرى، سببا لوقف حركة إطلاق الصواريخ، وقبولها وقف الحرب، وزاد قائد حركة الجهاد، من طهران، بأن حركته سجلت انتصارات على إسرائيل. والواقع فإن ذلك الكلام ينطوى على مبالغة، وتضليل، وعدم مسئولية، فمع الاحترام والتقدير لشجاعة المقاومين، وصمود أهل غزة، وإرادة المقاومة عند شعب فلسطين، فإن الصواريخ الألف التى أطلقت على إسرائيل لم تؤثر، ولم تصب فيها شيئا؛ هذا أولا. ثانيا، ثمة سذاجة فى الاعتقاد بأن إسرائيل تلتزم باتفاقيات أو تفاهمات موقعة أو شفوية، ولنراجع تجارب الحروب الأربع الوحشية الأخيرة التى شنتها على غزة، فأين هى التعهدات التى تم التحدث عنها لدى وقف كل حرب من الحروب المذكورة؟
كما أن كلام زعيم حركة الجهاد يوحى وكأن حركته تمتلك جيشا، أو كأنها هى التى تمتلك زمام البدء بالحرب أو إنهائها، إذ توعد (أيضا من طهران) بأنه فى حال لم تنفذ إسرائيل وعدها (لمصر) بإطلاق سراح الأسيرين السعدى وعواودة فسيتخلى عن وقف إطلاق النار، بمعنى إشعال الحرب مجددا. وفعلا ثمة خشية من ذلك لأن هذا ما يريح إسرائيل، وهذا ما تريده، أى استدراج الفلسطينيين إلى المربع الذى تتفوق فيه، لأنه يتيح لها إطلاق ترسانتها العسكرية للبطش فيهم واستنزافهم، وتصوير ذاتها كضحية؛ ولو أن صواريخ الجهاد لم تؤثر بشىء يذكر.
يحتاج الفلسطينيون إلى نقاش صريح، ومعمق، ومسئول، فى كل شىء يتعلق بهم، بواقع مجتمعاتهم، كياناتهم، خطاباتهم، علاقاتهم، طرق كفاحهم، إدراكهم لماهية إسرائيل، وطريقة صراعهم معها، رؤيتهم لمكانتهم فى الإطارين العربى والدولى، بعد كل هذا التدهور فى أحوالهم.
دور حماس فى الحرب الأخيرة
بدا لافتا تجنّب حركة حماس الاستدراج إلى تلك الحرب، بغض النظر إن كان ذلك عن حكمة أو لحسابات أخرى، مع ذلك فتلك الحركة تتحمل مسئولية المبالغة بتعظيم قوتها العسكرية (والصاروخية) كأنها باتت توازى قوة إسرائيل أو تقدر على تحديها عسكريا كأننا فى حرب نظامية، ولسنا فى نطاق حرب شعبية طويلة الأمد، حرب الضعيف ضد القوى. كما تتحمل مسئولية تحميل قطاع غزة فوق ما يحتمل، ما ينم عن ضعف تقدير لقوة العدو، وضعف حساسية لمعاناة مليونين من الفلسطينيين المحاصرين منذ 15 سنة، فى منطقة تعتمد على الخارج فى معظم احتياجاتها، وفى مجتمع يكابد البطالة والفقر، مع مشاعر الغضب والقهر والإحباط.
المغزى أن الحرب والمفاوضة يسيران باتجاه العودة إلى مرحلة ما قبل الحرب، وحتى إلى ما قبل الانتفاضة الثانية (2000ـ2004)، بعد عشرة آلاف شهيد (ضمنهم أربعة آلاف فى الانتفاضة الثانية) وأضعافهم من الجرحى ودمار عشرات آلاف المنازل والورش والمنشآت الخاصة والعامة الأخرى، ما يعنى أن الكفاح المسلح الفلسطينى لا يشتغل على نحو صحيح، وأن الوضع فى المفاوضات ليس أحسن حالا، سيما أنه يتعذر على الفلسطينيين فيها تحقيق ما عجزوا عن تحقيقه فى الحرب.
فيما يخص القيادة الرسمية الفلسطينية، وهى قيادة المنظمة والسلطة وفتح، فهى ما زالت، كما فى كل حرب، لا تدرى ما تفعله، إذ فقدت زمام السيطرة، فى مختلف الاتجاهات، فقط تفتق تفكيرها السياسى عن وعد بالتوجه نحو الأمم المتحدة لحث الاعتراف بفلسطين كدولة (فى حدود الضفة والقطاع)، وهو وهم آخر يجرى تشغيله حتى لا تشتغل ما هو مطلوب منها، وكى تحافظ على ذاتها كسلطة، من دون أن تشرح كيف ستفرض ذلك التحول، ولو حتى مع قرار من الأمم المتحدة أو مجلس الأمن؟ فهل تظن أن إسرائيل ستنسحب من الضفة وتعطيها السيادة مثلا؟
هل انصاعت إسرائيل فى تاريخها أى قرار للأمم المتحدة أو لمجلس الأمن؟ وما القوى التى تملكها أو جهّزتها القيادة الفلسطينية لانتزاع ما تريد، وتحويل وهمها إلى واقع بعد كل ما فعلته فى إضعاف الوضع الفلسطينى والمجتمع المدنى الفلسطينى؟!
مستقبل القيادة الفلسطينية
ما هو واضح هنا أن القيادة الفلسطينية تتخبط فى رؤيتها لذاتها، فهى لم تعد تتصرف كقيادة لحركة تحرر وطنى، ولا تستطيع التصرف حقا كسلطة حتى على شعبها، وهى ليست قيادة فصيل بمعنى الكلمة، وفوق ذلك تتعمد إسرائيل الحط من مكانتها إزاء شعبها. وباختصار لا يوجد أى ملمح لصوغ رأى عام فلسطينى، لا يوجد إلا عجز وتخبط وانعدام حيلة وضيق أفق، فهى لم تنفذ (منذ العام 2015) أى قرار للمجلسين الوطنى والمركزى ينص على وقف التنسيق الأمنى، وإعادة النظر فى طبيعة العلاقة مع إسرائيل، وهى تبدو كسلطة لا يهمها شىء سوى استمرار الطبقة السياسية السائدة.
كل ذلك يحيلنا على حث التفكير فى عدة اتجاهات، أولا، بخصوص مكانة قطاع غزة فى العملية الوطنية: هل قطاع غزة منطقة ما زالت تحت الاحتلال؟ أم باتت منطقة محررة؟ وهل يمكن تحويل غزة إلى قاعدة لمصارعة إسرائيل بالصواريخ وغيرها وتحميلها عبء التحرير أو دحر الاحتلال من الضفة؟ أم الأجدى تحويلها إلى نموذج لمنطقة محررة، يستطيع الفلسطينيون فيها تنمية أوضاعهم كمجتمع، فى التعليم والثقافة والاقتصاد والسياسة بانتظار ظروف أفضل؟
ما هو الشكل الأجدى لكفاح الفلسطينيين؟ فهل مقاومة الفلسطينيين لوحدهم تستطيع تحرير فلسطين، أم أن ذلك يحتاج، أيضا، إلى معطيات عربية ودولية مواتية؟ وهنا مفهوم أن المقاومة الفلسطينية يمكن أن تؤلم إسرائيل، وأن تزيد كلفة وجودها، وأن تهدد استقرارها، لكن هزيمتها التاريخية ــ الكلية، أو الجزئية ــ تحتاج إلى عوامل أخرى، لعل أهمها يكمن فى حصول تغير فى البيئتين الدولية والعربية لصالح الفلسطينيين، وتخليق جبهة عريضة من الإسرائيليين المعادين للصهيونية، ومن الذين يتعاطفون بإيجابية، ومن منطق الحق فى الحرية والعدالة والكرامة، مع كفاح الفلسطينيين.
باختصار، لا بد من استراتيجية سياسية وكفاحية واضحة لشعب فلسطين، حتى لا يبقى كأنه حقل تجارب، أو حقل رماية، وحتى يستطيع أن يستثمر فى كفاحه وتضحياته ومعاناته وبطولاته، وعلى أساس أن المقاومة، بكل أشكالها، هى فعل سياسى وكفاحى طويل الأمد، يتأسس على استنزاف العدو، لا استنزاف الشعب، أو تقويض استقراره وقدرته على الصمود فى أرضه.
النص الاصلى