الاقتصاد هو أحد العلوم التى تجرأ عليها العوام وغير المختصين، حتى أساءوا إلى علمائه ومحترفيه، وأسفرت تجارتهم ببضاعتها المسجاة عن أزمات كارثية، سقطت معها دول، وانهارت على إثرها الإمبراطوريات. ومع ذلك، فإن الدروس المستفادة من تلك الأزمات، لم تترك أثرا يذكر فى نفوس هؤلاء المعتدين.
فى عام 449 قبل الميلاد أصدرت حكومة روما قانون الألواح الاثنى عشر لتنظيم الحياة التجارية والاجتماعية والأسرية. ورغم أن بعض ما تضمنته تلك الألواح كان منطقيا ومتسقا مع اقتصاد يحترم العقود والتجارة، فإن بعضه الآخر تضمن عقوبات تعسفية قاسية، ومنح سلطات غير مبررة لعدد من الفئات فى تنفيذ تلك العقوبات.
ومنذ ذلك التاريخ وقعت الإمبراطورية الرومانية ضحية للعديد من القرارات غير المدروسة وغير الواعية إلى طبيعة المنطق الاقتصادى (قبل ظهور الاقتصاد كعلم مستقل)، أوقعت روما فى أتون من الأزمات، ساهمت فى زوال أكبر امبراطورية عرفها التاريخ البشرى. يذكر الاقتصادى «ريتشارد إبلينج» أنه فى عام 45 قبل الميلاد اكتشف «يوليوس قيصر» أن نحو ثلث شعب روما يحصل على احتياجاته من القمح مجانا من الدولة! مما أثقل الموازنة العامة بتكاليف لا يمكن احتمالها، فلجأت الحكومة إلى تخفيض قيمة العملة، وأعقب ذلك موجات تضخمية عنيفة فى دورات لا تنتهى. الاقتصاد الرومانى عندئذ بات حبيس التضخم، وتثبيت أسعار القمح، وعجز فى إمداداته، وعجز فى الموازنة العامة للدولة، وتخفيض متوالٍ فى قيمة العملة.. مما أدى إلى مزيد من التضخم... وهكذا ظلت الأزمة الاقتصادية الرومانية تتعقد باستمرار، بسبب عدم فهم حكومات روما القديمة للسلوك الاقتصادى الرشيد، ولحدود التدخل فى النشاط الاقتصادى، ومواءمة الدورين الاجتماعى والاقتصادى للدولة على نحو لا يرهقها اقتصاديا، ولا يخل بقوى العرض والطلب فى الأسواق (راجع مقالنا فى الشروق بعنوان «مرسوم دقلديانوس درس من تاريخ روما»).
• • •
فى مصر كانت قوانين الإصلاح الزراعى ومن بعدها قرارات التأميم الصادرة فى أعقاب يوليو 1952، بداية لهروب القطاع الخاص من الاقتصاد، وعزوف المستثمرين (الباقين) عن ترحيل أو احتجاز أى جانب من أرباح شركاتهم خشية تأميمها، مما أدى إلى الإفراط فى توزيع الأرباح وخروجها من الشركات إلى القطاع العقارى أو إلى خارج البلاد، حتى تم استنزاف الطاقات الاقتصادية للبلاد. وكان ذلك مشفوعا برؤية سياسية واجتماعية عميقة، لكنها أهملت الاقتصاد إلى حد بعيد. حتى محاولات التحول الصناعى لم تبنَ على نموذج «آرثر لويس» لفائض العمالة فى القطاع الزراعى، ولا استحدثت نموذجا جديدا، ولكنها تعجلت الانتقال من الاقتصاد الزراعى إلى الاقتصاد الصناعى بصورة لم تحقق الأهداف التنموية التى نجحت فيها اقتصادات أخرى (راجع مقالنا فى الشروق بعنوان «معضلة التنمية ونظرية الكشاف الضوئى»). وحينما قامت ثورة يناير عام 2011، واختارت لنفسها شعارا يبدأ بالمناداة بـ«العيش» قبل الحرية والعدالة الاجتماعية، أذكر أننى دعيت إلى اجتماع برئاسة وزير الثقافة. كان الحضور ممن أطلق عليهم شباب الثورة! وكانوا مزيجا لا بأس به من شتى الأعمار والفئات، لكن الغالب على حديثهم الحدة والاندفاع، وكان ذلك مفهوما ومقبولا فى ظل الظرف السائد. لكن العجيب هو إنكار معظمهم لأهمية الاقتصاد فى تلك المرحلة، بزعم أن نظام الرئيس الأسبق مبارك كان يتخذ من الاقتصاد مخدرا للشعب! بغية إلهائهم بلقمة العيش عن المطالبة بالحريات والحقوق، وفى مقدمتها الحقوق السياسية طبعا.
لم أخفِ دهشتى من ذلك الموقف العجيب الكاره للاقتصاد، وقبل انسحابى من الجلسة التى ظننت أن أكبر إسهام محتمل لى فيها صار غير مرغوب فيه، أكدت للشباب أنهم مخطئون، وأن كل ما يرسمون له فى القاعات المغلقة المكيفة، سينهار تماما على أول حائط للوضع الاقتصادى المتأزم، الذى لابد أن يواجهوه خلال أسابيع، خاصة فى ظل سياسات وزارة المالية آنذاك. لا أحب أن أكون مصيبا دائما، ليس فى هذا الرهان الذى خسر فيه الاقتصاد المصرى الكثير من الفرص التى سنحت له، لو أنه اتخذ مقعده المناسب من مجالس الهواة والمندفعين. استنزف احتياطى النقد الأجنبى، وغصت المصالح الحكومية المتخمة بالبطالة المقنعة بالكثير من التعيينات غير المطلوبة، التى ضاعفت أزماتها المالية والإدارية. كانت العطايا السياسية تخرج من الخزانة العامة للدولة بغير حساب ولا تدبير، ولا احترام لأى منطق اقتصادى. وبالطبع جاء الإخوان بمشروع اقتصادى غير مفهوم إلى اللحظة، وانصرفوا غير مأسوف عليهم.
• • •
لكن الخطايا الاقتصادية اتخذت فى بلادنا العديد من الصور، أرجو أن أتناول بعضها فى هذا المقال، غير متحيز لوجهة نظر ولا منحاز إلى مدرسة اقتصادية بعينها. فى مقدمة تلك الخطايا عدم الاهتمام بالتخصص الاقتصادى، بل إن أحد محافظى البنك المركزى السابقين، كان له قول مشهور فى عدم فهمه أو تقبله لأى نصيحة من شخص «اقتصادى»!! هو لا يعرف سوى «المحاسبين» فى مجال العلوم المالية، أو كما قال لمذيعة البرنامج الذى استضافه للتعليق على السياسة النقدية للبلاد، والتى يديرها اقتصاديون مهرة فى معظم الدول الكبرى، ومنهم من حاز جائزة «نوبل» فى الاقتصاد التى ليس لها مثيل فى علم المحاسبة!.
من أبرز الخطايا الاقتصادية، الاهتمام بالإيراد على حساب التكلفة. وقد لاحظنا خطابا لعدد من المسئولين، يرصد الإيرادات المتوقعة للمشروعات المزمع إقامتها فى نطاق إدارتهم المالية، دون أدنى عناية بالمصروفات المباشرة، ناهيك عن التكاليف غير المباشرة وأبرزها تكلفة الفرصة البديلة. وهذه التى تناولناها فى كثير من مقالاتنا، يمثل إغفالها إحدى أهم الخطايا التى يقع فيها الكثيرون من متصدرى المشهد الاقتصادى فى مصر. مفهوم تكلفة الفرصة البديلة يظل حاكما فى تطويع أى مؤشر لحكم يصدر لصالح تجربة ما أو ضدها. فلو أن مشروعا ما حقق إيرادا كبيرا وعائدا على الاستثمار قدره 20% مثلا، فإن نجاح ذلك المشروع يظل موقوفا على التأكد من أن ما تم إنفاقه فيه لا يحقق إيرادا أكبر وعائدا أعظم لو أنه أنفق فى فرصة بديلة أو مشروع بديل ربما حقق عائدا على الاستثمار قدره 35% بذات التكاليف.
كذلك يجنح الكثيرون من صانعى القرار الاقتصادى الكلى إلى المفاضلة بين المشروعات على أساس مؤشرات متحيزة، ولا تصلح إلا فى حالة المشروع الصغير. فمثلا لا يمكن المفاضلة بين مشروع صناعى له جدوى اقتصادية واجتماعية، وله عائد مستدام طويل الأجل، وله مزايا استراتيجية تتصل بالاكتفاء الذاتى والتخلى عن الاستيراد والتخلص جزئيا من أزمة النقد الأجنبى.. بمشروع عقارى أو بمركز تسوق تجارى، على أساس العائد النقدى على الاستثمار وحده! هذا المعيار يصلح استخدامه من قبل الأفراد فيما يتعلق بأموالهم الخاصة وقراراتهم الاستثمارية، لكن الدولة لا تفكر بهذا المنطق.
من أهم الخطايا الاقتصادية التى يقع فيها المستثمر الخاص والحكومى على حد سواء، الاهتمام بمؤشرات تحقيق الأرباح على حساب مؤشرات الدين، ومدى استدامة هذا الدين وقدرة المؤسسة أو المنشأة على سداده من إيرادات النشاط فى فترة زمنية معقولة. يتصل بهذا العديد من القوائم المالية التى يصدر أربابها رقم الربح الإجمالى والربح الصافى، مهملين نسبة الدين إلى حقوق الملكية مثلا! يترتب على هذا الكثير من الأخطاء التى تصنف المشروعات باعتبارها ناجحة، وهى فى حقيقة الأمر متعثرة ومآلها إلى الزوال السريع.
وقد وقعت مصر ضحية لنماذج الاقتصاد «البونزى» Ponzi Scheme (راجع مقالنا فى الشروق بعنوان «إنه عصر نماذج بونزى») فى ثمانينيات القرن الماضى متمثلة فى شركات توظيف الأموال، والتى كانت تسدد أرباحا مغرية للمستثمرين من رءوس أموالهم ورءوس أموال مستثمرين آخرين، ولا يزال النموذج ناجحا (برؤية قاصرة محدودة) ما دامت الأموال تتدفق على تلك الشركات. النتيجة كانت إفلاس شركات توظيف الأموال، وانهيارها بصورة مؤلمة لقطاع كبير من المواطنين، الذين كانوا ينظرون إلى الربح المرتفع السريع، ويغفلون حجم الالتزامات الضخمة على تلك الشركات.
وخلال الأيام المقبلة سوف تداهمنا بعض القوى النشطة بمشروعات اقتصادية للخروج من الأزمة كنوع من الدعاية الانتخابية لمرشحيهم. علينا أن نقرأ تلك المشروعات جيدا ونرى إلى أى حد استطاعت التمييز بين ما هو سياسى أو عاطفى وما هو اقتصادى.