«لو أن صناعة الصلب كانت دولة، لاحتلت المرتبة الرابعة بين أكبر الدول المسببة لانبعاثات الكربون فى العالم بعد كل من الصين والولايات المتحدة والهند»، كانت هذه العبارة مفتتح كلمتى فى الندوة التى شاركت بها متحدثا فى مؤتمر الأطراف COP27 المنعقد فى شرم الشيخ، وتحديدا فى يوم إزالة الانبعاثات الكربونية من الصناعات الذى خصص له يوم الجمعة الموافق 11 نوفمبر عام 2022. صناعة الصلب وحدها مسئولة عن 5٪ من انبعاثات الكربون فى العالم، فى الوقت الذى لا تساهم فيه قارة أفريقيا كلها بأكثر من 3% من تلك الانبعاثات!
يعزو ذلك أساسا إلى أن ما يقرب من 75٪ من الطلب العالمى على الفحم (كمصدر للطاقة) يأتى من صناعة الصلب، وخاصة من المصانع التى تتبنّى تكنولوجيا الأفران العالية Blast Furnace كونها تنتج ما لا يقل عن 70٪ من إنتاج الصلب عالميا. وقد قامت مصر بإغلاق آخر تلك الأفران العالية ذات الحجم الكبير، والذى كان يعمل بالكاد فى شركة الحديد والصلب المصرية منذ نحو عامين، ونتيجة لذلك تم تصفية الشركة الوحيدة المتكاملة رأسيا مع شركة الحديد والصلب المصرية، لتزويدها بفحم الكوك فى حلوان (تلك المنطقة التى كانت فى يوم من الأيام وجهة علاجية لما تملكه من هواء نقى وعيون للمياه الكبريتية) .
لذلك يمكننا القول بضمير مستريح: إن من بين مليارى طن من الصلب، ينتجها العالم سنويا وتستهلك فى الغالب من قبل الدول الناشئة والنامية، تعد المساهمة الضئيلة لمصر (التى تمثل 8 ملايين طن فقط فى السنة) ذات بصمة كربونية منخفضة للغاية مقارنة بمعظم الدول الأخرى والمنتجين المنافسين فى أى مكان آخر. علما بأن القليل من تلك الكمية التى تستهلكها مصر يتم إنتاجه محليا فى مصانع شبه متكاملة، وأن غالبية الإنتاج لا يعدو أن يكون من مصانع الدرفلة، مما يقلص من مراحل إنتاج الصلب، ومن ثم الانبعاثات، إلى أدنى المستويات.
• • •
على الرغم من كل ما تقدم، فإن الدول النامية مثل مصر لا تنكص عن تعهداتها والتزاماتها المناخية. لكنها دول «نامية» بالتعريف، فهى تنمو بمعدلات سريعة نسبيا، وتمر بما يعرفه علماء اقتصاديات التنمية بمرحلة الانطلاق فى مسارها التنموى، وهى يلزمها الطاقة من أجل البقاء، والوقود لتغذية متطلبات ذلك النمو.. الفحم والوقود الأحفورى بمشتقاته هى المصادر الرئيسية للطاقة بالنسبة لقطاع التصنيع فى هذا العالم (خاصة الصناعات كثيفة استهلاك الطاقة) . فهى المصادر التى لا تحتاج المصانع لدى استهلاكها إلى إجراء أى تعديلات تقنية مكلفة، ومن ثم لا تتعرّض إلى أزمات تمويلية تضيف إلى أعباء قطاع الصناعات التحويلية الذى يعانى بالفعل فى مختلف الدول منخفضة الدخل لأسباب مختلفة.
ليس من العدل إذن أن نطلب من تلك الدول النامية، التى تعرضت لقرون من القمع والنضال من أجل استقلالها، أن تلتزم بذات القدر من التعهدات، متحمّلة نفس الأعباء التى تتعهّد دول العالم الأول (المتقدمة) بتقديمها للحد من تغيّر المناخ. علما بأن هذه الدول المتقدمة، تمكنت عبر الزمن من استنزاف موارد الكوكب، والإضرار بالمناخ خاصة مع إطلاق الثورة الصناعية الأولى وحتى اليوم.
لفهم ذلك ليس علينا أن ننظر فى التاريخ البعيد لتلك الدول العظمى، بل تكفى نظرة حديثة إلى حال أوروبا الغربية عند تعرّضها لصدمة واحدة فقط فى سلاسل الإمداد وتحديدا فى إمدادات الغاز الطبيعى على خلفية الحرب الروسية ــ الأوكرانية، وكيف أجبرت على اتخاذ تدابير متعددة لإرجاء خططها المستقبلية لتحوّل الطاقة. هذه ألمانيا مثلا تمد العمل بالفحم والطاقة النووية فى بعض محطات توليد الكهرباء، إلى أجل يخالف تعهداتها السابقة تجاه تغير المناخ. تلك التدابير مفهوم دوافعها، فهى تراعى طبيعة الأزمة، وتقدّم احتياجات المواطن الأوروبى الآنية على أى التزامات مناخية مستقبلية رغم الإقرار بإلحاح أزمة تغيّر المناخ. الدول النامية ليست بعيدة عن تأثير تلك الصدمات الأخيرة، بل على العكس فهى فى القلب من تداعياتها، وتواجهها بخلاف مواجهتها لتحديات أخرى شديدة الإلحاح من بينها الفقر والديون وقسوة الظروف المناخية.
مع كل ما سبق، ومع إقرارنا بأهمية القضية المناخية وعدالة توزيع أعباء التعامل معها، فإن مصر على سبيل المثال، تضم أراضيها الفقيرة بموارد المياه والطاقة 104 ملايين مستهلك وتصبو إلى معدلات نمو لا تقل عن 6٪ إلى 7% مسئولة فقط عن 0.6٪ من انبعاثات الكربون فوق هذا الكوكب! هذا لا يعنى أننا لا نهتم بمستقبل الأرض، إنها موطننا الوحيد، لكننا نحتاج فقط إلى تسليط الضوء على المسئوليات وأن نكون منصفين فى توزيعها.
• • •
لكن ما هى التكلفة التى يمكن أن تتكبدها دول العالم لوقف تغيّر المناخ الذى لم يعد ضربا من الوهم بل صار واقعا مدمرا لكثير من المناطق؟ سمعنا أكثر من مرة عن ضرورة جمع ما بين 5 و7 تريليونات دولار أمريكى سنويا حتى عام 2030 من أجل تحقيق أهداف التنمية المستدامة. وذكرت مجلة الإيكونومست فى تقرير حديث أن نحو تريليون دولار أمريكى أطلقت الوعود برصدها كل عام لمحاولة تخفيض الاحترار أو تحييد انبعاثات الكربون بنحو 1.5 درجة عن مستوياتها قبل الثورة الصناعية الأولى. لكن التقرير يعود ليؤكد أن تحقيق ذلك الهدف لم يعد منطقيا فى ظل معدلات ارتفاع الحرارة حاليا، وفى ظل تلك الميزانية المتواضعة التى يجب أن تتضاعف ثلاث مرات على الأقل.
إن إطلاق مثل هذه الاستثمارات الضخمة ليس بالمهمة السهلة، ويجب على الدول الغنية، سواء الحكومات، ومؤسسات القطاع الخاص والمجتمع المدنى، جنبا إلى جنب مع الكيانات الدولية متعددة الأطراف، أن تعمل جميعا على إزالة الكربون من التقنيات القديمة فى مختلف بقاع الأرض، باستخدام الوسائل المناسبة، حتى يتسنى العمل الجاد لتخليص صناعات مثل الصلب من الكربون.
لا يمكننى أن أتوقف عن التبسّم كلما ذكرت مشاركتى فى أعمال قمة الأطراف COP22 التى عقدت فى مراكش، وكيف كان بعض المشاركين يباهون بتعهّد الأطراف المشاركين فى قمة باريس برصد 100 مليار دولار أمريكى لوقف الاحتباس الحرارى، بل واتهام الأسواق المالية بالتكاسل فى تعبئة وتوظيف تلك الأموال «الضخمة» التى تم التعهد بها!!! كل ذلك أصبح من التاريخ، فالتحديات الآن أشد وطأة وأكثر كلفة، ويجب استدعاء كل الجهود لإنقاذ الكوكب من كارثة محققة.
كان ما سبق هو محور مشاركتى فى COP27 بشرم الشيخ، والتى ضمّنتها وختمتها بعدد من المقترحات أبرزها:
• ضرورة تقديم المنح والقروض الميسرة إلى الدول النامية لتخليص صناعاتها من الكربون، مع الحرص على تغطية طروحاتها من المنتجات المالية الخضراء مثل السندات والصكوك الخضراء الصادرة بغرض تمويل الأغراض البيئية، وأن يتصدى لتلك التغطية المستثمرون المسئولون الذين يتطلعون إلى القيام بواجب أخلاقى فضلا عن تحقيق الربح.
• ضرورة منح نقاط ائتمان كربونية مجانية لمصانع الصلب والسيليكون الحديدية فى الدول النامية، وذلك لمساعدتها على تخطّى الفترة الانتقالية لتحويل خطوط إنتاجها إلى خطوط صديقة للبيئة، وتحويل منتجاتها إلى منتجات خضراء.
• يجب منح محفزات سوقية وائتمانية للمنتجات منزوعة الكربون، وتلك التى تحمل شهادات من أرصدة الائتمان الكربونى فى السوق.
• ضرورة الإسراع بما نادينا به منذ سنوات، بإنشاء صندوق خاص لانتقال الطاقة فى مصر والدول النامية بمشاركة وإسهام كبار منتجى الكربون فى العالم.