لا تكمن أهمية الاتفاق الذى تم التوصل إليه فى جنيف بين الدول الخمس الكبرى وألمانيا من ناحية، وبين إيران من ناحية أخرى، فى ضمان الطابع السلمى للبرنامج النووى الإيرانى فحسب، بل فى تلك الآثار البعيدة المدى التى يمكن أن تترتب عليه، سواء تعلق الأمر بالأمن الإقليمى، أو بالأمن الدولى بشكل عام. وهنا لابد أيضا من الإشارة إلى اتفاق التخلص من السلاح الكيماوى السورى الذى تم التوصل إليه منذ أشهر قليلة، والذى يشكل الدعامة الثانية للأمن الإقليمى، جنبا إلى جنب مع الاتفاق النووى. نحن نقترب إذن من هدف سعينا إليه بإخلاص منذ عقود وهو إخلاء منطقة الشرق الأوسط من كل أسلحة الدمار الشامل.
الدولة الوحيدة المارقة التى وقفت ضد الاتفاق النووى مع إيران كانت إسرائيل بالطبع التى تمتلك بالفعل ترسانات ضخمة من السلاح النووى والكيماوى. تعتقد إسرائيل أنها تحتكر الحكمة وبعد النظر، وأنها تعلم من مخابراتها ما لا تعلمه مخابرات الدول الكبرى مجتمعة عن البرنامج النووى الإيرانى! هذا الموقف الذى تبناه نيتانياهو قوبل بالمعارضة داخل إسرائيل نفسها، فالسياسيون قالوا ان إسرائيل إنما فرضت العزلة الدولية على نفسها بهذا الموقف، فى الوقت الذى كسرت إيران نطاق العزلة المضروب حولها! أما العسكريون فقالوا ان البديل عن هذا الاتفاق سيكون الحرب التى لا يعلم أحد نتائجها وأبعادها. من ناحيته وصف أوباما موقف نتنياهو بأنه بعيد عن الواقعية خاصة دعوته إلى تشديد العقوبات على ايران.
•••
وفى الوقت الذى تم فيه ذلك الاتفاق النووى مع إيران، خرج علينا مركز أبحاث دولى مرموق مقره ألمانيا Bonn International Center for Conversionبإحصائيات صادمة عن التسلح التقليدى (وليس النووى) فى منطقة الشرق الأوسط. كشفت إحصائيات هذا التقرير والذى يعتمد على معلومات صادرة عن المراكز الاستراتيجية والعسكرية العالمية على أن منطقة الشرق الأوسط هى أكثر مناطق العالم إنفاقا على التسلح، وأن أربع دول شرق أوسطية، وهى إسرائيل وسوريا والأردن والكويت، تحتل المراكز الأربعة الأولى عالميا على قائمة الدول التى شملها التقرير وعددها 149 دولة. جاءت السعودية فى المركز رقم 11 على القائمة، ومصر فى المركز 27. يذكر التقرير أن إجمالى ما أنفقته دول الشرق الأوسط على التسليح عام 2012 بلغ 128 مليار دولار أمريكى بالتمام والكمال، وان نسبة هذا الانفاق إلى إجمالى الناتج المحلى لهذه الدول تزيد على ٪7، فى حين أن النسبة المتعارف عليها عالميا لا تزيد على ٪2.5 ويبرز التقرير حقيقة ان ذلك المستوى المرتفع للغاية للتسلح فى المنطقة، إنما يسهم فى مساهمة مباشرة فى زيادة عدم الاستقرار فيها، ويؤدى إلى لجوء الدول فيها إلى استخدام وسائل العنف لحل الخلافات الداخلية والخارجية، بدلا من اتباع الوسائل السلمية. وبضرب التقرير المثل بسوريا (التى تحتل المركز الثانى على القائمة) حيث نرى العلاقة واضحة بين حجم تسليحها واندلاع العنف فيها على نطاق واسع.
ما لم يذكره التقرير هو أن كميات ضخمة من هذه الأسلحة قد تترك ليعلوها الصدأ كما كان الحال فى ليبيا أيام القذافى، وأن صناع وتجار السلاح هم أكبر المستفيدين من إهدار الأموال على شراء ذلك السلاح الذى قد يكون متدنيا من حيث الكفاءة عن نفس السلاح الذى يزود به الخصم صاحب الحظوة!
•••
هذه المعلومات تدفعنا على التساؤل حول حجم المنافع التى كان يمكن أن تعود على منطقتنا إذا ما تم توجيه الجزء الأكبر من هذه الأموال الطائلة إلى مشروعات التنمية الزراعية والصناعية ومن أجل النهوض بالخدمات الصحية والتعليمية التى هى فى أمس الحاجة إليها؟ ألا يمكن التوصل إلى تفاهمات بين دول المنطقة للحد من التسليح وربما توقيع اتفاقات عدم اعتداء إذا ما توفرت حسنة النية وأمكن بناء الثقة فيما بينها؟
•••
نعود إلى الفرص الجديدة التى خلقها إبرام الاتفاق النووى مع إيران. رحبت كل دول مجلس التعاون الخليجى بالاتفاق باعتباره خطوة مهمة فى سبيل التخلص من أسلحة الدمار الشامل. وبعد زيارة قام بها وزير خارجية الإمارات لطهران، قام وزير الخارجية الإيرانى بجولة فى عدد من دول مجلس التعاون مؤكدا أن الاتفاق إنما يصب فى صالح الجميع، وعلى أن إيران حريصة على فتح صفحة جديدة فى علاقاتها مع الدول الخليجية. بل قامت البحرين بالرغم من اتهاماتها المستمرة لإيران بتأجيج مشاعر الجالية الشيعية فيها بدعوة إيران لحضور قمة الأمن الإقليمى (حوار المنامة) التى نظمها المعهد الدولى للدراسات الاستراتيجية فى الفترة من 6 ــ 8 ديسمبر الحالى. شارك فى المؤتمر العديد من وزراء الخارجية والدفاع ومن الاقتصاديين والمتخصصين فى المجالات الاستراتيجية، بالإضافة إلى رجال الأعمال وذلك من مختلف دول العالم. حرص وزير خارجية مصر على حضور هذا المؤتمر، وكذلك فعل وزير الدفاع الأمريكى. سعى المؤتمر إلى معالجة المحاور الرئيسية لأمن الخليج والشرق الأوسط، ومعالجة النزاعات الإقليمية والطائفية، وتفشى ظاهرة الإرهاب، فضلا على بحث التعاون العسكرى بين دول الخليج وسبل عدم جهود التنمية فيها. هذه المشاركات سواء الأمريكية أو المصرية أو الإيرانية تحمل دلالات مهمة ولاشك، وتؤكد الرغبة فى تشييد بنية شرق أوسط مختلف تنحسر فيه المشكلات كى تفسح المجال للتعاون وتحقيق النماء.
•••
تسريبات ظهرت على السطح مؤخرا حول لقاءات جرت فى السر بين الولايات المتحدة وإيران استمرت لأشهر فى سلطنة عمان، شملت الملف السورى وملف أفغانستان، وكذلك التطرق إلى بحث مشروعات طموحة تهدف إلى ايجاد مشاركة استراتيجية تعود بالنفع على المنطقة. بالرغم من النفى الإيرانى، فإنه لا يمكن إنكار وجود رغبة من قبل كل الاطراف لإتاحة الفرص لاختبار حسن النوايا ومحاولة بناء الثقة بينهم.
•••
الدور المصرى فى دعم أمن منطقة الخليج، ليس بالجديد، ويكفى أن نشير إلى مشاركة القوات المصرية فى تحرير الكويت عام 1991 بعد غزو صدام لها، وإلى إعلان دمشق الذى وقع فى 6 مارس من نفس العام وضم مصر وسوريا إلى جانب دول الخليج، وشملت أهدافه التنسيق فى الجوانب السياسية والاقتصادية والعسكرية بين هذه الدول. ومن اللافت أن هذا الإعلان أكد انه غير موجه ضد أى طرف، بل يمكن أن يكون مقدمة لفتح حوار مع «الأطراف الإسلامية والدولية التى تحترم المصالح العربية العليا».
وفى ضوء الدور النشط الذى تلعبه الدبلوماسية المصرية فى الوقت الحالى، والاتصالات المكثفة والمتتابعة مع مختلف الدول، فمن المتوقع تماما ألا تكون مصر بمعزل عن تلك الجهود المبذولة لتعزيز الأمن والاستقرار فى منطقة الخليج والمنطقة العربية بشكل عام. مثل ذلك الدور المصرى سيكون محل الترحيب ولاشك من دول الخليج العربية فى ضوء التنامى الحالى للعلاقات المصرية الخليجية.
•••
بقى القول إن ذلك التعاون الذى يستهدف أمن الخليج وأمن المنطقة بشكل عام، والدور المصرى المنتظر فى تحقيق هذا التعاون تعزيزه، يقتضى وجود علاقات طبيعية لمصر مع الدول المحورية الأخرى فى المنطقة، ونعنى بذلك إيران وتركيا. فمهما احتدت الخلافات وتباينت وجهات النظر، فإن مصير كل ذلك إلى زوال، ولاشك أن التطورات الأخيرة الإقليمية والدولية، التى استعرضناها فى السابق، لخير شاهد على ذلك.
ولا شك أن مصر بكل إمكاناتها وخبراتها تستطيع أن تسهم مساهمة فعالة فى وضع لبنات شرق أوسط جديد ومختلف.