ـ 1 ــ
كثير من الصخب، كثير من الإصدارات والفعاليات، كثير من المعارك والاشتباكات، لكنها تظل كلها فى النهاية فى دوائرها المحدودة بحدود أصحابها ومجالات تأثيرهم فيما عرف باسم جماعة المثقفين المصريين..
لعل الأبرز فى العام 2021 من وجهة نظرى الجدل المثار حول انتقال حقوق نشر أعمال نجيب محفوظ من دار الشروق إلى غيرها؛ الحدث نفسه لا مشكلة فيه؛ فهذا طبيعى وحق مشروع لورثة الأستاذ نجيب محفوظ.. إنما كان اللافت أن الإعلان عن انتقال الحقوق قد صاحبه بيان وصفه الكثيرون بالركيك والخطير؛ لأنه يكرس لشكوك واتهامات بالتلاعب فى نص محفوظ من قبل ناشريه السابقين!
وقد تصدى للرد على ذلك كل محبى وعشاق محفوظ بتأكيدهم أن نص محفوظ «محفوظ» بقوة الحضور والتداول والانتشار والمشاعية.. ولا يملك أحد ولا جهة مهما كانت الادعاء بأن نص محفوظ ناقص أو مشوه أو منتقص.. إلى آخر ما جرى الإيهام به من خلال هذا البيان وتداعياته..
ــ 2 ــ
بالتأكيد، فإن احتفالية موكب المومياوات الملكية، وافتتاح طريق الكباش بالأقصر، يمثلان تحولا محمودا فى سياسة الدولة تجاه الاهتمام بالآثار المصرية القديمة؛ بعد عقود وعقود من الإهمال والتناسى وترك المجال للفكر الدينى المتطرف فى تشويه وإنكار كل حضور أو أثر سابق على دخول الإسلام إلى مصر..
إن دلالات الحدثين تتجاوز بكثير جدا فكرة الاحتفال والاحتفاء (أو حتى الاستعراض كما حاول البعض أن يروج)، السذج وحدهم والجاهلون والمتعمدون الإساءة والتسطيح هم من يقفون عند حد الاحتفاليتين اللتين نجحتا نجاحا باهرا فاق كل التوقعات، نجاحا مبهرا تحدث به الناس والدنيا كلها حتى اللحظة.
إن لهذين الحدثين دلالات عديدة ومتراكبة وقوية وعميقة وتمس فى أحد مستوياتها أول مواجهة هوياتية حضارية حقيقية ناعمة بين تكوين مصر، وحضارة مصر، وهوية مصر الأصيلة الغنية المتنوعة، وبين الوجه الأسود الكابى الجاهل الذى يفح صفرة، وسموما، وجاهلية، وعنفا، وتعصبا مقيتا طيلة نصف القرن الماضى.
ــ 3 ــ
وفى 2021، تجدد الحديث عن الهوية المصرية من منظور حضارى وثقافى، وذلك فى مدارها المنفتح الذى يستوعب التعددية والاختلاف ولا يخاصم حضارة ولا ديانة ولا طائفة؛ الهوية المصرية التى عبرت عن نفسها بقوة وإبداع فى ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضى، أو إذا شئنا القول العقود الذهبية فى تاريخ مصر الحديث والمعاصر.
بقليل من التجوز يمكن النظر إلى 2021 باعتبارها سنة فارقة شهدت إعلان إعادة الاعتبار لما سماه طه حسين «العقل المصرى» الذى لم يتنكر أبدا لأصوله الحضارية وبنيته الذهنية، العقل الذى استوعب كل بذور وأمشاج الحضارة التى غرسها أول ما غرسها على أرضه، وأثمرت على ضفاف نيله، وأنبتت أول مجتمع إنسانى منظم قبل التاريخ بتاريخ.
عربيا، أعتبر ملتقى الشارقة الدولى للراوى، وخاصة فى دورته الأخيرة عن «قصص الحيوان»، من العلامات الثقافية المهمة، وبفضل برامجه الثرية ونشاطه الواسع والفاعل بات قبلة للعاملين فى مجال التراث فى البلاد العربية والعالم، ما يدفع إلى المزيد من البحث والتقصى والدراسة لأكثر من جزئية فى التراث، نحو استدامته وإحيائه وقراءة كل مفرداته. بحق صار الملتقى مناسبة عربية وقومية وإنسانية كبيرة، لتبادل الآراء والكتب والأفكار.
ــ 4 ــ
غيابات فادحة ولا يمكن تعويضها؛ كان عام 2021 قاسيا علينا فى رحيل أسماء بقيمة وحضور وأهمية وحيد حامد، وشاكر عبدالحميد، وصلاح الراوى، وماجدة الجندى، وحسن حنفى، وجابر عصفور.
والأخير بالأخص لم يكن رحيله بالهين؛ لقد اهتزت الأوساط الثقافية والمعرفية فى مصر والعالم العربى لرحيل جابر عصفور، وبان لكل من تابع أصداءَ هذا الرحيل فى كل مكان، والكتابات التى نعَته من مثقفين وكتاب ونقاد، من مختلف التيارات والاتجاهات، والتخصصات والجنسيات، عظم الأثر الذى لعبه، وجسامة الأدوار التى مارسها، وجسارة المعارك التى خاضها، وإن كان سيظل من بينها الدور الأكثر أصالة ونقاء وبقاء؛ دوره العظيم والكبير كأستاذٍ جامعى مرموق، وكناقدٍ أصيل يوضع اسمه دائما فى قائمة الأشهر والأبرز والأهم مصريا وعربيا، خلال نصف القرن الماضية.
كان جابر عصفور، بالنسبة لى ولغيرى ممن تتلمذوا على يديه؛ نقديا ومعرفيا، من الأساتذة الذين، كانوا يمخضون العقلَ مخضا؛ فيه عنفوان وفيه قوة وفيه توهج (وهذا التعبير قرأته لديه، وهو من عباراته الأثيرة التى لم يكف عن استخدامها فى أدبياته النقدية والدراسية، إنه تعبيره هو كما كان يكتب عن أساتذته الأجلاء، ومنهم المرحوم الدكتور شكرى عياد، وأستاذه أمين الخولى).. كان رحمه الله من نوعية الأساتذة التى لا تقبل ولا ترضى لا بالتلقين، ولا الحفظ، ولا الاجترار، أو مجرد استعراض المعلومات.. إنه فيما أظن، على النقيض من ذلك كله، محرض ومشجع وداعم للفهم والابتكار والإبداع واكتساب القدرة على التعبير الذاتى، وحضور الشخصية.. وأشهد أنه علمنا ذلك بكل إخلاص واقتدار.
ــ 5 ــ
على مستوى الإنتاج والفكرى والإبداعى والثقافى هناك طوفان حقيقى من الإصدارات والكتب والمؤلفات والروايات.. عدد كبير من دور النشر ظهرت فى السنوات الأخيرة، ومارست نشاطها بكل قوة.. صحيح أن هناك فوضى عارمة وعدم وضوح الخطط والرؤى، لكنى على يقين بأن الحركة بركة والممارسة والنشاط خير من السكون والجمود والتكلس.. ومادامت هناك حركة وإنتاج، فأنا مؤمن بأنها ستعدل مسارها بنفسها، وستنتقى وستفرز من داخلها ما يقود إلى تطور حقيقى وانتقال وارتقاء نتمناه ونطمح إليه منذ عقود طويلة.