فراغ القوة فى سوريا.. نظرية تبعث من جديد - جميل مطر - بوابة الشروق
الأربعاء 15 يناير 2025 10:55 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فراغ القوة فى سوريا.. نظرية تبعث من جديد

نشر فى : الأربعاء 15 يناير 2025 - 8:05 م | آخر تحديث : الأربعاء 15 يناير 2025 - 8:05 م

سوريا فى العام 1957 وسوريا فى العام 2024. الكثير تغير فيها وفى الشرق الأوسط، ولكن الكثير أيضا فيهما لم يتغير. صدر قرار من حكومة الرئيس شكرى القوتلى بتعيين الجنرال عفيف البزرى رئيسا للأركان فى الجيش السورى. سرت شائعات عن أن الرجل متعاطف مع الشيوعيين، وهو الاتهام الشائع فى ذلك الحين عن كل الأفراد والجمعيات المناهضة لإسرائيل والهيمنة الغربية. انفعل الرئيس دوايت أيزنهاور بناء على معلومات وتحليلات رفعها إليه وزير خارجيته الداهية جون فوستر دالاس فأصدر أو وافق على إصدار ما عرف بمبدأ أيزنهاور.
• • •
حقيقة الأمر تكمن فى أن الشرق الأوسط كان يغلى بالغضب والثورة على الغرب منذ أن نشب العدوان الثلاثى فى حرب السويس فى عام 1956. يذكر التاريخ أن أشد الغضب تركز فى سوريا وبطبيعة الحال فى مصر. أشد الغضب فى سوريا تركز فى الجيش وبخاصة بين ضباط الصف الثانى وفى الشارع بشكل أثار خوف وانفعال الدول المجاورة وهى تركيا والأردن والعراق ولبنان. أما أشد الغضب فى مصر فعبرت عنه بتضخم وإثارة أجهزة الإعلام المصرية مستعينة بالاختراع التكنولوجى الأحدث وهو الراديو الترانزستور. لم تنس العواصم الغربية وعواصم عربية الحملة المصرية لإسقاط حلف بغداد. كذلك هددت هيمنتها ونفوذها المظاهرات المستمرة رافعة شعارات ضد الغرب وملتفة حول نداءات الوحدة العربية والقومية العربية. هذه الأخيرة التى اعتبرها دالاس تمثل تهديدا مباشرا لمصالح أمريكا فى المنطقة.
• • •
بناء على هذه الفرضيات صدرت النصائح الأمريكية للحكومة التركية، نصائح أو تعليمات تقضى بحشد قوات تركية على حدود سوريا الشمالية. وفى الوقت نفسه حفلت صحف إنجلترا وأمريكا والغرب بمقالات وتحليلات تعتبر أن «فراغ قوة» نشأ فى الشرق الأوسط بسبب الوضع فى سوريا.
• • •
أذكر جيدا تفاصيل تلك الأيام وحال التعبئة فى الجامعات المصرية ومنظمات الشباب واتحادات الطلبة، كما أذكر جيدا ما أحدثته زيارة الضباط السوريين لمصر ليجتمعوا بعبد الناصر ويطلبوا إقامة الوحدة بين البلدين. أذكرها فقد انعكست على امتحانات انضمامى لبرنامج الدراسات العليا بالجامعة وامتحانات قبولى ملحقا بالسلك الدبلوماسى، أذكرها أيضا للأحاديث المستفيضة التى جرت أثناء علاقة العمل أو العلاقات الشخصية التى قامت مع بعض الضباط السوريين ممن شاركوا فى الاجتماع بالرئيس المصرى والتحق بعضهم فيما بعد بالسلك الدبلوماسى لدولة الوحدة، وأحاديث أخرى تخللت علاقة عمل متنوعة نشأت مع محمود رياض سفير مصر الأسبق بدمشق والأمين العام للجامعة العربية خلال توليه الأمانة ولسنوات بعدها خلال فترة تقاعده.
• • •
كانت عبارة «سوريا مركزا أو سببا لفراغ القوة فى الشرق الأوسط» محور أحاديثنا فى ذلك الحين استنادا إلى كونها المبرر الذى استخدمه الغرب لتغيير النظام فى سوريا. مرت سنوات بل عقود لتنتهى بزمن تعلو فيه مرة أخرى راية هذا الزعم كمبرر لتدخل جديد فى سوريا، هدفه الأهم، كما كان تماما هدف مبدأ أيزنهاور وتعبئة جيوش تركيا وجيوش أخرى على حدود سوريا وهو ملء فراغ القوة المزعوم أو الحقيقى. كان أيزنهاور واضحا فى إعلانه أن فراغ القوة ناشئ عن الانتكاسة التى لحقت بمكانة بريطانيا العظمى فى الشرق الأوسط.
• • •
لاحظ أنه فى المرتين تحركت إسرائيل لتغزو وتحتل أراض سورية. فى المرة الأولى أعرب جون فوستر دالاس عن أمله فى أن تتمكن أمريكا من وقف الزحف العسكرى الإسرائيلى علما بأنها تدخلت عسكريا فى لبنان فى العام التالى، بينما فى المرة الثانية، أى بعد حوالى سبعة وستين عاما، لم تبذل الولايات المتحدة جهدا، أو حتى بالأمل، لوقف التدخل العسكرى الإسرائيلى. كما أنه فى المرة الثانية، أى الجارية حاليا، لم يصدر عن البيت الأبيض مبدأ يحمل اسم الرئيس بايدن ربما لأنه أراد أن يحتفظ لنفسه بصفة الرئيس الذى لم يجر الولايات المتحدة إلى حرب، فشاء أن يدفع بإسرائيل إلى حرب هى دائما راغبة فيها ولكن برضاء أو تغطية أمريكية وهو ما حدث فى حرب غزة ويحدث فى لبنان والضفة الغربية. لا يفوتنا أن أمريكا لم تكن فى حاجة لتحريك جيوشها ضد سوريا لسبب بسيط وهو أن قواتها وجدت فعلا على أراضى سوريا منذ ساد الزعم بأن تنظيمات وميليشيات متطرفة راحت تعبث بتوازنات القوة التقليدية فى الشرق الأوسط، فكان واجبا على أمريكا أن تكون موجودة بنفسها فى قلب الإقليم على مقربة من فراغ هى بنفسها مشاركة فى صنعه.
• • •
مرتان، وفى الحقيقة مرات عديدة، يتعرض الشرق الأوسط لفراغ قوة، وفى المرتين وربما فى جميع المرات كان مركزه سوريا. أذكر منها على سبيل المثال فراغ القوة الناتج عن هزيمة أو نكسة 1967، وهو الفراغ الذى حاول حافظ الأسد ملئه بشكل أو آخر وبدرجات متفاوتة من النجاح. المهم أنه لم يتجاوز حدود التعاطى مع روسيا أو مع إيران على حساب أمريكا، وهو التجاوز الذى انجر إليه وريثه بشار. هذا الوريث الذى عجز عن أن يلم بكل أبعاد التغيرات فى توازنات القوة فى الشرق الأوسط ببعديها القومى والإقليمى وكذلك بالبعد الدولى.
• • •
يأتى النظام الجديد إلى دمشق فى زمن يشهد بوادر تحولات هائلة فى مختلف توازنات القوة الدولية والإقليمية. أخشى أن أقول بل أؤكد قناعتى بأنها جميعا أو أغلبها تعكس تداعياتها من قريب على تطورات الوضع السياسى لدمشق تحديدا وسوريا بمعنى أوسع. تنبع هذه القناعة من متابعة طويلة الأجل لما أطلق عليه خصوصية سوريا فى شبكة التفاعلات الشرق أوسطية منذ زمن طويل. تجاوزت بعض التحولات ما كان متوقعا وصارت واقعا نعيشه. نعيش "شرق أوسط "على طريق الانتقال، نشهد فيه عودة الدول الإقليمية وأقصد تركيا وإسرائيل وإيران إلى انتزاع بعض أدوار القيادة والتوجيه فى الإقليم من دول عربية، مع العلم بأن لكل دولة من الدول الإقليمية "إقليمية" أحلامها وطموحاتها التاريخية والثقافية والدينية والسياسية. بعضها توسعى بالعقيدة غالبا وبالثقافة أحيانا وبالمصالح الاقتصادية كثيرا وبأطماع التوسع للجاه والعزوة دائما.
• • •
تركيا بحكم تاريخها الإمبراطورى واعتبارات أخرى دولة توسعية، وكذلك إسرائيل وإيران بحكم العقيدة وأحيانا الأسطورة. تتضمن المرحلة الانتقالية للشرق الأوسط دورا ناشئا للمملكة العربية السعودية فى صناعة توازن القوى الجديد فى المنطقة. لاحظنا تفاوت سرعات الصعود نحو القمة من جانب هذه الدول وكذلك التفاوت الصارخ فى أساليب الصعود.
• • •
نشاهد باهتمام سباقات الصعود فى هذه المرحلة من تطور نظام الشرق الأوسط. خلصنا إلى هيمنة أسلوب العنف خلال الصعود ولكن أيضا وبتدرج واضح وبطء له ما يبرره أسلوب الثروة والمعونات والقوة الاقتصادية. نتابع أيضا وبفضول شديد نشاط دول فى الإقليم تؤثر فى خريطة توازن الإقليم بابتكارها سياسات أقرب إلى المغامرات الخارجية منها إلى ممارسة أدوار مستحقة. خلصنا أيضا إلى أن دولا عديدة فى الإقليم لم تتحمل آلام ومعاناة الصعود أو حتى مجرد البقاء فى خضم تقلبات مرحلة انتقالية شديدة التعقيد، لم تتحملها فانفرطت أو ها هى توشك على الانفراط. هذه الدول الفاشلة صارت من سمات الشرق الأوسط فى مرحلته الجديدة وساحات للمنافسة على مصادر الطاقة والموقع بين القوى الطامحة والصاعدة.
• • •
نكرر أخطاء السابقين إن تصورنا أن الأمور فى الشرق الأوسط استقرت وأن المرحلة الانتقالية وصلت إلى منتهاها. صحيح أن روسيا خسرت مكانة ومصالح لها فى الشرق الأوسط بسبب التطورات الأخيرة فى حربها مع أوكرانيا، وصحيح أيضا أن مكانة ومصالح إيران تضررت ضررا بالغا وبخاصة خلال الأسابيع الأخيرة، وصحيح أنه جرى تشجيع أطراف عربية على المساهمة بدور أو آخر فى صنع مستقبل إقليمى جديد فى الشرق الأوسط بمواصفات وسمات وعقائد سياسية تختلف عما كان سائدا فى النظام الإقليمى العربى قبل دخوله حال الكمون، وصحيح أن سوريا تخضع الآن لمشروع نظام حكم غير محدد الأوصاف وغير مؤكد التوقعات والتوجهات، وإن حقق نقلة مزاجية إيجابية وضرورية فى معظم طبقات المجتمع السورى وبين المغتربين والنازحين، وصحيح أن أمريكا سوف تكون من الأسبوع المقبل لأربع سنوات قطبا متأرجحا بين نزعات ومفاجآت رئيس مختلف وبليونيرات عقارات وأصحاب شركات للتكنولوجيا لهم جميعا أطماع فى شرق أوسط فى حال سيولة وانتقال، صحيحة كل هذه المؤشرات وصحيح أيضا أنها تنبئ عن مرحلة بالغة الاضطراب يتصادف حلولها مع حلول مرحلة سيكون فيها النظام الدولى هو الآخر فى حال انتقال من وضع المنافسة بين الأقطاب إلى وضع الحرب الباردة.
أيام لن تكون على نمط ما سبق من أيام.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي