سوريا البلد العربى الجميل، الذى حمل إرث الدولة الأموية، ومنه انطلق الفتح العربى، ليصل إلى بوابات الصين شرقًا، وإسبانيا غربًا، وفى عاصمته دمشق سكت أول عملة عربية، وتم فيها أيضًا تعريب الدواوين، قوته فى عروبته، وتنوع مذاهبه وأديانه. ومن غير وعى القائمين على أموره، حقيقة عروبته وتنوعه، يظل المستقبل قاتمًا، وتغدو البلاد مهددة بالتحلل والفناء.
ليس فى سوريا فسحة، لتغليب هيمنة مذهب أو دين على آخر، وتصدق فى هذه البلاد إلى حد بعيد مقولة «الدين لله والوطن للجميع». غالبية السوريين من المسلمين ينقسمون إلى سنة وإسماعيليين وعلويين وشيعة. كما تضم سوريا طائفة الموحدين «الدروز». ويوجد فيها عدد لا يستهان به من المسيحيين، يشكلون نسبة تتراوح بين 8 - 10 فى المائة. وفى السابق، عاش فيها اليهود، الذين هاجر معظمهم بعد نكبة فلسطين عام 1948 إلى إسرائيل، وتواصلت هجرتهم حتى ما بعد نكسة الخامس من يونيو 1967.
الجامع المشترك بين هؤلاء جميعًا انتماؤهم للعروبة، باعتبارها هوية جامعة للسوريين. وقد شارك قادتهم ووجهاؤهم فى الثورة السورية الكبرى ضد العثمانيين، كما شاركوا بعد كشف مؤامرة سايكس - بيكو والثورة ضد الفرنسيين، وفى إنجاز الاستقلال السياسى لسوريا عام 1946.
وقد أشرنا فى وقت سابق إلى المجزرة التى ارتكبها السفاح جمال باشا، بحق زعماء النهضة العربية، فى سوريا ولبنان، والأشهر بينها مجزرة مايو عام 1916.. وتواصل ذلك النضال ضد الفرنسيين، بعد وضع اتفاقية سايكس - بيكو موضع التطبيق.
وكما كان الكفاح جماعيًا ضد هيمنة الاستبداد العثمانى، شمل جميع مناطق ومكونات الشعب السورى، فإنه كان كذلك فى مواجهة الاستعمار الفرنسى؛ حيث شارك فى قيادته قادة ووجهاء الشعب فى مختلف المناطق السورية.
لقد بدأت المواجهة مع الفرنسيين مبكرًا، قبل أن يتمكنوا من احتلال البلاد، وكان وزير الدفاع فى حكومة الأمير فيصل بن الحسين، يوسف العظمة هو أول من تصدى لهم فى معركة ميسلون. وليستمر بعدها كفاح السوريين، من أجل الاستقلال، فى دورات متواصلة، ومن غير انقطاع، حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، التى تم استثمارها من قبل الثوار للتسريع فى إنجاز الاستقلال. وخلالها شاركت معظم المناطق، فى ذلك الكفاح، وبرزت أسماء لامعة قادت معركة الاستقلال. حضر اسم عبدالرحمن الشهبندر من دمشق، وإبراهيم هنانو من محافظة إدلب، وسلطان باشا الأطرش من مدينة السويداء فى جبل العرب.
وقد أثير فيما بعد حديث حول تعاون بعض قادة الثورة مع البريطانيين، ورغم عدم وجود ما يؤكد ذلك، فإنه لو تحقق فليس فى ذلك ضير، طالما أنه يخدم هدف الاستقلال. وفى السياسة حسب، رئيس الوزراء البريطانى الشهير، ونستون تشرشل، ليس هناك صداقات أو عداوات دائمة، بل مصالح مشتركة. فصديق الأمس يمكن أن يكون عدو اليوم، والعكس صحيح.
ما يهمنا فى هذه اللحظة هو حاضر سوريا، وليس ماضيها، وحين نذكر الماضى، فلكى نؤكد ثوابت الهوية السورية، وسر قوة حضورها. سوريا الحاضر، وبغض النظر عمن يتولى فى الوقت الراهن قيادتها، لن يُقدّر لها، الاستمرارية فى أداء مهامها إلا فى ظل وعى التنوع الدينى والمذهبى داخل المجتمع السورى. وتغيير النظام السياسى، هو شىء، وتفكيك بنية الدولة شىء آخر. الحكومات تأتى وتذهب، وينطبق بحقها القول المأثور: «لو دامت لغيرك ما وصلت إليك»، لكن الأوطان هى الباقية.
والتغيير الذى تحتاجه سوريا، هو الانتقال من حال الاستبداد، إلى سيادة دولة الحق والقانون، ومن غير ذلك تذهب كل وعود التغيير فى مهب الرياح، ولن يكون لها من معنى سوى تكريس الاستبداد، هكذا كان وعد حركة اليقظة العربية، باعتبارها حركة تنوير، تمثلت مطالبها فى الانتقال من الاستبداد العثمانى إلى تحقيق الديمقراطية، بما تعنيه من عقد اجتماعى، يستند على المشاركة السياسية، واحترام الرأى والرأى الآخر.
سوريا بحاجة إلى استقلال سياسى كامل، يجعلها من حصة السوريين وحدهم، وليس من حصة قوى إقليمية قادمة من الشرق أو الشمال، أو أى جهة أخرى. والتفريط فى جزء منها هو تفريط فى الكل. ولن يستقيم الحديث عن سوريا جديدة دون تأكيد ثوابت وحدة أراضيها، وحق شعبها المطلق فى الاستقلال وتقرير المصير. حاضنة سوريا ينبغى أن تكون عربية فى كل الأحوال، لأن ذلك يتسق مع حقائق الجغرافيا والتاريخ، التى صنعت هويتها المعاصرة.
فقد شاركت فور استقلالها فى مؤتمر بلودان فى شهر يونيو عام 1946، الذى أعلن فيه تشكيل جامعة الدول العربية، وكانت عضوًا مؤسسًا فيها. وخاضت سوريا ثلاثة حروب، من أجل فلسطين، فى أعوام 1948، و1967، و1973، وقدمت قوافل الشهداء من أجل تحرير الأرض العربية. وليس بإمكان أى كان التنكر لهذا التاريخ المجيد.
يبقى أن نقول إن مسئولية عودة سوريا إلى الحضن العربى هى مسئولية مشتركة، تقع على القائمين على الشأن السورى من جهة، وعلى الحكومات العربية من جهة أخرى. وأول خطوة فى هذا الاتجاه هى رفع الحصار الاقتصادى عنها، والمشاركة فى حل أزماتها الاقتصادية، وتقديم العون المالى لها، والمشاركة فى إعادة إعمار ما خلفته الأيام والشهور الماضية من أوضاع مزرية. وهى مسئولية ليست فرض كفاية.
يوسف مكى
جريدة الخليج الإماراتية