نشرت صحيفة القدس الفلسطينية مقالاً للكاتب عمر رحال، شرح فيه كيف يستخدم الغرب الرأسمالية ليس فقط للسيطرة الاقتصادية، بل للهيمنة الثقافية على العالم، كما ذكر النتائج السلبية المترتبة على هذه الهيمنة.. نعرض من المقال ما يلى:
الرأسمالية، كنظام اقتصادى وسياسى، تطورت على مدى القرون لتصبح القوة المهيمنة عالميًا. ومع توسع نفوذها، لم تقتصر الرأسمالية على السيطرة الاقتصادية، بل تعدت ذلك إلى استخدام الثقافة كوسيلة للهيمنة الأيديولوجية. تعد الثقافة فى هذا السياق ليست مجرد نتاج إنسانى يعكس التقاليد والقيم المحلية، بل أصبحت أداة لنشر قيم البرجوازية، وتحويلها إلى معايير عالمية تُفرض على المجتمعات المختلفة.
كما أن الهيمنة الثقافية هى عملية تَستخدم فيها الدول الغربية قوتها الناعمة لفرض قيمها وأنماط حياتها على المجتمعات الأخرى، سواء كان ذلك من خلال الإعلام، التعليم، الفنون، أو التكنولوجيا. هذه الهيمنة تعمل على نشر فكرة أن القيم الغربية، مثل الحرية الفردية، الديمقراطية الليبرالية، والسوق الحرة، هى «طبيعية» و«حتمية» لتقدم البشرية، بينما تُهمَّش الثقافات الأخرى وتُصوَّرها على أنها متخلفة أو غير متماشية مع العصر الحديث.
لذلك، الثقافة هى واحدة من أهم الأدوات الأساسية للدول الغربية فى ممارسة الهيمنة الأيديولوجية على المستوى العالمى مصحوبة بميزة التفوق العلمى والتكنولوجى لدى الغرب. فمنذ عصر الاستعمار وحتى يومنا هذا، استخدمت الدول الغربية الثقافة للسيطرة على الوعى الجمعى فى دول العالم الثالث أو الدول المستعمر الفقيرة وتوجيه العقول لتشكيل العقول والوعى الجمعى بما يخدم أهدافها الاستراتيجية، سواء لتعزيز مصالحها الاقتصادية أو لتكريس نفوذها السياسى والعسكرى. تُمارَس هذه الهيمنة من خلال نشر القيم الغربية باعتبارها المعايير العالمية الوحيدة المقبولة، وتسليع الثقافة لتصبح وسيلة للتحكم فى المجتمعات، خصوصًا فى الدول النامية. الثقافة، بوصفها مجموع القيم والرموز والأفكار والتقاليد، تمثل أداة قوية ووسيلة فعالة لتشكيل العقول والتأثير على السلوك.
تتحقق هذه الهيمنة ليس بالقوة أو الإكراه فقط، بل عبر وسائل ناعمة مثل الإعلام، التعليم، والدين، لتصبح أفكار الطبقة الحاكمة هى الأفكار السائدة فى المجتمع. لذلك فإن الثقافة فى هذا السياق ليست فقط وسيلة للتواصل أو التعبير عن الهوية، بل تصبح أداة لإعادة إنتاج النظام القائم وترسيخ قيمه. من خلال الثقافة، تُحوّل الأفكار الأيديولوجية إلى جزء من «العقل الجمعى»، مما يجعل مقاومتها أو حتى إدراك وجودها أمرًا صعبًا. ففى ظل النظام الرأسمالى، وتطور منظومة القيم النيولبيرالية يتم تسليع الثقافة وتحويلها إلى منتج يُباع ويُشترى، مما يتيح للنخب البرجوازية استخدام أدوات الثقافية المختلفة لتعزيز هيمنتها الأيديولوجية.
• • •
يعتبر الإعلام، إلى جانب أدوات أخرى من أهم الأدوات التى تستخدم الثقافة للهيمنة الأيديولوجية الإعلام هو أقوى أداة تُستخدم لنشر القيم الغربية. تُهيمن الشركات الإعلامية الغربية على الساحة العالمية، مثل CNN، BBC، وNetflix،FOX وتقدم سرديات عالمية تعكس مصالح وأجندات الدول الغربية. كما تُستخدم الأفلام والمسلسلات للترويج لنمط حياة غربى يُظهر المجتمعات الغربية كرمز للتقدم والحضارة. يتم تصوير الديمقراطية الليبرالية كنظام مثالى. كما تعتبر العولمة وسيلة فعالة لفرض الهيمنة الثقافية الغربية. من خلال التجارة الحرة وانتشار الشركات متعددة الجنسيات، تُصدَّر القيم الغربية كجزء من السلع والخدمات. أما العلامات التجارية العالمية مثل ماكدونالدز، كوكا كولا، وآبل لا تُقدم منتجات فقط، بل تُروج أيضًا لثقافة استهلاكية غربية تعتمد على الفردية والمظهر الخارجى، وتحكم منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولى والبنك الدولى بالاقتصاد العالمى ونشر الثقافة الاستهلاكية فى المجتمعات النامية الفقيرة.
هذا إلى جانب الموضة والموسيقى؛ حيث إن صناعة الأزياء والموسيقى تُستخدم لنشر نمط حياة غربى جذاب، يتم تصويره كرمز للحداثة. تُساهم هذه الصناعات فى خلق هوية عالمية تتوافق مع القيم الغربية، ما يؤدى إلى تآكل الهويات الثقافية المحلية.
ومع ظهور الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعى، أصبحت التكنولوجيا أداة قوية لبسط الهيمنة الثقافية فى العصر الرقمى؛ حيث تُستخدم التكنولوجيا لنشر الهيمنة الثقافية الغربية، من خلال وسائل التواصل الاجتماعى، حيث تُهيمن الشركات الغربية مثل فيسبوك، إنستجرام، وتويتر، ويوتيوب على الاتصال الرقمى، مما يجعلها أدوات لنشر القيم الغربية بشكل غير مباشر.
فى حقبة الاستعمار وما بعدها، فرضت القوى الغربية ثقافتها على المجتمعات المستعمرة، وخاصة اللغة كمكون أساسى من مكونات الثقافة الغربية، ما أدى إلى تآكل الهويات المحلية.
اليوم، تُستخدم أدوات مثل الإعلام العالمى لترويج القيم كما أنها تعزز ثقافة الاستهلاك من خلال الإعلانات التى تُصور السعادة والنجاح كمقترنين باقتناء السلع المادية. هذه الثقافة تدفع الأفراد للعمل والاستدانة لتحقيق «السعادة» وفق المفهوم الرأسمالى. فى الماضى كانت الدول الاستعمارية تستخدم الاستعمار التقليدى لفرض هيمنتها على الشعوب الأخرى من خلال الاحتلال العسكرى، أما اليوم، فإن الاستعمار الثقافى يُفرض من خلال السيطرة الاقتصادية والثقافية. القيم الغربية البرجوازية تُقدَّم على أنها معيار للتحضر، مما يؤدى إلى تآكل الهويات الثقافية المحلية وإضعاف التنوع الثقافى.
ومن هنا فإن أهداف الهيمنة الثقافية الغربية، تتمثل فى تعزيز السيطرة الاقتصادية، حيث تسهم الهيمنة الثقافية فى تعزيز السيطرة الاقتصادية الغربية من خلال فرض قيم استهلاكية تُزيد من الطلب على المنتجات والخدمات الغربية. هذا إلى جانب إضعاف الثقافات المحلية من خلال فرض القيم الغربية، يتم تهميش الثقافات المحلية وجعلها تبدو غير متماشية مع العصر الحديث، مما يؤدى إلى فقدان المجتمعات لهويتها. وأبعد من ذلك فإن الدول الاستعمارية تهدف من وراء الهيمنة الثقافية إلى تعزيز وتأمين النفوذ السياسى لها على الدول والمجتمعات الأخرى.
• • •
النتائج المترتبة على الهيمنة الثقافية ذات أبعاد خطيرة ليس أقلها تعميق التفاوت الطبقى، حيث يتم تصوير النجاح على أنه مقتصر على الأثرياء والمستهلكين. الفقراء يتم تهميشهم وتصويرهم كفاشلين لعدم قدرتهم على تحقيق هذه القيم. هذا إلى جانب الاستلاب الثقافي، حيث يصبح الأفراد مستلبين ثقافيا عندما يتبنون قيماً غريبة عن مجتمعاتهم مما يؤدى إلى أزمة هوية.. هذا يؤدى إلى أزمة هوية وإحساس بالغربة داخل أوطانهم.
إن نجاح الرأسمالية فى تحويل القيم البرجوازية إلى معايير عالمية اعتمد على قدرتها على تصوير هذه القيم كطبيعية وحتمية. يتم تقديم مفاهيم مثل الحرية الفردية، والملكية الخاصة، والسوق الحرة على أنها ضرورات طبيعية للتطور البشرى، وليس كاختيارات أيديولوجية.
• • •
أخيرًا، إن استخدام الدول الغربية للثقافة كوسيلة للهيمنة الأيديولوجية هو جزء لا يتجزأ من استراتيجيتها لتعزيز نفوذها السياسى والاقتصادى؛ حيث تعتمد هذه الهيمنة على قوة ناعمة تُعيد تشكيل المجتمعات بما يخدم المصالح الغربية، وذلك لإضعاف التنوع الثقافى وترسيخ التبعية.
ولمواجهة هذه الهيمنة، يجب تعزيز الوعى النقدى والثقافة البديلة من خلال التعليم، والإعلام، والتعاون الثقافى الذى يعكس التنوع العالمى بدلاً من الانصياع لنمط ثقافى واحد. التى تعكس القيم الجماعية والتنوع الثقافي، مع مقاومة أى محاولة لفرض معايير أيديولوجية أحادية على المجتمعات. كما تحتاج المجتمعات لمواجهة هذه الهيمنة، إلى إعادة تقييم علاقتها بالثقافة والرأسمالية، والعمل على حماية هويتها وقيمها الأصيلة من التهديدات التى تفرضها العولمة الرأسمالية.