فى زيارة عمل سريعة لمدينة لى فيها أصدقاء كثيرون، أمضيت يوما مع صديقة، نتبادل الأخبار ونمشى بمحاذاة بحيرة ساحرة تتوسط المدينة. توقفنا لشرب القهوة ثم دخلنا دار سينما لنشاهد فيلما يجتاح صالات العرض وصفحات النقد فى الجرائد بسبب تعقيد موضوعه المرتبط بظاهرة انجذاب شباب وشابات إلى مجموعات متطرفة، وعند انتهائنا من الفيلم جلسنا فى مقهى نتحدث عن التطرف والحروب وتطور المجتمعات، تساءلنا عما إذا كانت مفاهيم الحقوق كما شهدها العالم غداة الحرب العالمية الثانية وكما تم تدوينها فى الإعلان العالمى لحقوق الإنسان وفى النصوص الكثيرة التى تلته، تساءلنا إن كان ما زال باستطاعة هذه التشريعات أن تجذب قطاعا عريضا من المؤمنين بمركزية العدالة الاجتماعية كإحدى ركائز العمل المجتمعى والنضال السياسى.
***
هكذا إذا أمضيت يوما مع صديقة عرجنا فيه على مواضيع خاصة كأخبارنا وأخبار أصدقاء مشتركين وعامة معقدة كحال العالم اليوم. عند وداعى لها، ابتسمت صديقتى بطريقة أعرف أن ثمة اعترافا سوف يلى إشراقة وجهها، وقالت إننى أبدو أكثر نضجا فى العلاقات الإنسانية مما كنت عليه منذ سنوات. اندهشت لتعليقها؛ إذ إنها من صديقاتى المقربات اللواتى لطالما أعطيتهن أولوية فى خططى فى كل مرة رأيت فيها إمكانية أن نمضى وقتا معا. «أنت لم تحشرينى هذه المرة بين مواعيد كثيرة وزيارات للمتحف ونصف مسرحية تخرجين قبل أن تنتهى حتى تتمكنى من سرقة بضع دقائق من زميلة لم تريها منذ سنوات. أنت اليوم أكثر استمتاعا بما حولك وأكثر قدرة على إفهام من تحبين أنك تخصيه بالاهتمام».
***
هل هو العمر من فرض أن أبطئ من خطواتى أم هى السنوات تبطئ هى الأخرى من خطواتها التى تدوس فيها على من أحب؟ هل هو رحيل أحباء جعلنى مع كل وداع أندم على أننى لم أمض معهم ما أستحقه من متعة صحبتهم؟ هل هو قرار أخذته بلا وعى حول ضرورة أن أشبع قلبى، إن كان ذلك ممكنا، من رؤية بعض الناس والاستماع إليهم لأتجرع كلماتهم وكأنها رشفات من قهوة سوف أعود إليها فى ذاكرتى فى كل مرة أشتاق إليهم بعد أن يذهبوا، فيخف حنيني؟
***
ملاحظة صديقتى فى محلها، فأنا كنت فعلا ممن يملئون جدولهم، لا سيما عند السفر، بكل ما يمكن أن يغنى التجربة، أو على الأقل هذا كان تعريفى عن إغنائها منذ سنوات. وها أنا أصبح اليوم أغنى بفضل وقت أمضيه مع صديقة دون برنامج، فنتوقف أمام منظر للبحيرة كنت قد رأيته مرارا من قبل وطبعا أعجبت بجماله غير المألوف فى عالمى، لكنى لم أوقف من مشيتى قط كما فعلت مع الصديقة هذه المرة، ولم أبحث عن مقعد خشبى أجلس معها عليه أمام البحيرة لنكمل حديثا قد يكون جديا أم لا، إذ إن الهدف هو استنشاق جمال المنظر فى المقام الأول. هنا، على المقعد الخشبى، أشعر أننى أتمرغ فى لحظة أكتشف فجأة أنها لن تعود. أذكر أستاذ مادة الفلسفة فى المرحلة الثانوية فى المدرسة حين أراد لنا أن نستوعب مفهوم الوقت فأصر على أن نصمت وننظر إلى الساعة الرملية حتى نفهم، بصريا، كيف يمضى الزمن دون أن نمسك به، كيف تهرب الثوانى من عنق زجاجى تحت أنظارنا دون أن نتمكن من إيقافها. أعود اليوم إلى مدرستى فى يوم بارد حاولت فيه أن أدفئ يدى فى جيوبى بينما جاهد أستاذ مادة الفلسفة فى أن يشد انتباه مجموعة مراهقين إلى موضوع لم أفهمه سوى بعد أكثر من عشرين سنة، هنا من على مقعد أمام بحيرة مع صديقة شهدت تغيير طرأ على تعاملى مع ما حولى فعبرت عن رأيها، وتوقف بى الزمن.
***
لن أدعى أننى قللت من عدد أصدقائى أو أننى قلصت من نشاطات أحبها، لن أدعى أننى أصبحت أكثر هدوءا فى علاقتى مع ما حولى، أو أننى بت أقل اهتماما بالتواصل مع أشخاص كثيرين ومختلفين، لكنى فعلا ومنذ فترة صغيرة صرت كمن يأكل الحلوى المثلجة بكثير من التأنى، لعقة صغيرة من طرف البسكويتة قبل أن تذوب الحلوى، أتمتع بنكهتها ببطء، قد أغمض عينى بينما تذوب النكهة فى فمى ويمتلئ بها جوفى. ثم أفتح عينى لأتمتع بمنظر الحلوى وآخذ لعقة جديدة من الطرف الآخر الذى بدأ يذوب أيضا. حياتى وحياة من أحب هى الحلوى التى تذوب فى الشمس، وأنا ألف البسكويتة فى يدى وآخذ من هنا لعقة ومن هنا قضمة، قضمة حديث لا ينتهى بينما تحفر ابتسامة تجعيدة على وجه صديقتى، لعقة قصة من زمن بعيد نضحك عليها من جديد حتى تنهمر دموعنا.
***
هنا من على المقعد الخشبى أستنشق صداقات تطير كالعصافير فوق البحيرة وقت الغروب، تطير وتحط من حولى بينما حديثى مع صديقتى لا يتوقف. أنا أعيش لحظة تناغم مع النفس نادرة، غير مستعجلة، ألعق فيها الحلوى المثلجة بتمهل واهتمام، أعرف أنها ستنتهى مع آخر لقمة لذا أدعها تذوب فى فمى ولا أبتلعها. وحين أنتهى منها سوف أقترب من البحيرة، أوشوش الكون أمامى وألقى بكلماتى فى الماء، ثم أعود لصديقتى على المقعد وأعترف أنها على حق، لن أحشر من أحب بين المواعيد، فكل منهم موعد غرام كامل لا شركاء له.