منذ استقلال لبنان ووضعه المجتمعى، وعلى الأخص السياسى، يشبه التنين الذى ما إن يُقطع رأس من رءوسه حتى ينبت رأس جديد آخر. ولم يستطع الرحم اللبنانى أن يلد البطل القادر على مصارعة ذلك التنين وقطع كل رءوسه وإراحة أناس هذا البلد المعذبين دوما. من هذه الأسطورة فى الواقع اللبنانى يجب الحكم على الانتخابات اللبنانية الأخيرة. إنه غياب البطل القادر على محاربة التنين باسم كل ساكنى لبنان وليس باسم بعض منهم. ومع ذلك فإن لبنان اقترب من حدوث تلك الأعجوبة، أعجوبة سفك دم التنين لولا تغلّب الطبع على التطبّع وانفجار الحمم من تحت الأرض اللبنانية.
إن حمم التهديد والوعيد أطلّت فى أبشع صورها من خلال الابتزاز الأمريكى للبنان والذى جاء على لسان نائب الرئيس الأمريكى وهو يتوعد بقطع المساعدات عن شعب لبنان إن اختار من لا ترضى عنهم حكومته. إن ذلك الرجل الوقح لم يكن حتما يتكلم عن توقف بلاده عن إرسال هداياهه المتواضعة فى شكل بعض سيارات لنقل الجنود أو بضع طائرات هليكوبتر قديمة بآلية للجيش اللبنانى، أو التوقف عن تقديم مساعدات فنية أو مالية متواضعة ومشروطة هنا أو هناك. إنه كان يعنى منع عواصم الدنيا والبنك الدولى وبنوك الإقراض وشركات الاستثمار التعامل مع لبنان الغارق فى ديونه، المنهك المتعب جراء صراعاته وحروبه الخارجية والداخلية. لقد كانت رسالة شيطانية أمريكية صهيونية للمواطن اللبنانى بأن يختار بين كرامته وحريته وقناعاته وبين جوع أبنائه وانقطاع كهربائه وتخلّف كل مؤسساته. ولقد انضمّت فى إرسال حمم الوعيد والابتزاز عواصم أوروبية وعربية وشنّت حملة إعلامية صهيونية وعربية وغربية، توجّهت كلها إلى التبشير بقرب دخول لبنان جهنم التى سيكون وقودها حجارة جبل صنين وخشب الأرز.
وبينما كان الفرد اللبنانى يوازن اختياراته بين الخضوع للابتزاز الأمريكى ــ الأوروبى ــ الصهيونى ــ العربى، وبين وقفة العز والكرامة التى عاشها منذ انتصاراته فى حرب يوليو قبل ثلاث سنوات، إذ بإحدى السلطات الكنسية تخرج عن صمتها وحياديتها لتشعل حمما فى الوسط اللبنانى المسيحى فى شكل مخاوف وأوهام وهلوسات، مما يمكن أن يأتى به المستقبل إن مارس الناخب المسيحى اللبنانى ما تمليه عليه مشاعره الوطنية المتحررة من الطائفية والانعزالية الثقافية. وجرت شائعة كالنار فى الهشيم بأن هذه الصرخة الكنسية ما هى إلا تحذير من أن ولاية الفقيه قد أصبحت فى الأفق اللبنانى وأنها قاب قوسين من سدة الحكم.
هنا دخلت الحيرة والشكوك فى قلب وعقل ووجدان الناخب اللبنانى، واختلط الحابل بالنابل. ولقد كنت آنذاك زائرا للبنان، وشعرت بثقل تلك الحيرة وتلك المخاوف حتى عند بعض المحسوبين على التوجهات اللاطائفية. وعندما يدخل البشر فى الحيرة الذهنية تصبح الساحة مهيّأة لدخول رءوس الشياطين، وهكذا كان. فجأة تدفقت الملايين من الدولارات لشراء الأصوات والذمم، وجيّشت شركات السفريات للإتيان بآلاف المغتربين اللبنانيين من أقاصى الأرض للتصويت مع هذه الجهة أو تلك، وتحركت ماكينة جوبلز النازية الإعلامية الشهيرة لنشر الأكذوبة تلو الأكذوبة، وبدأ الناس بتصديق هذه أو تلك من أكاذيب التاريخ والسياسة والدين والعنصرية.
فى هذا الجو السياسى الملوث الذى عمّ جبال وسهول ووديان لبنان، تضيف إلى تلوثه الساعة تلو الساعة فضائيات عربية تخاف كل تغيير بعد أن ارتبطت فكريا بالأصولية الأمريكية الصهيونية ومصلحيا بتوجيهات مموليها، وتسممه تحركات الساسة العرب والأجانب وهم يربطون بين نتائج الانتخابات اللبنانية ومستقبل الحياة السياسية فى كل بلدان الأرض العربية وما حولها فيحمّلون لبنان ما لا يحتمل، فى هذا الجو ما كان للحياة السياسية اللبنانية إلا أن تغلب طبائعها التاريخية على تطبّعها الجديد. فكان أن عاد الناس إلى جاهلية الاصطفاف الطائفى المبتذل وإلى الاستزلام لرؤساء الميليشيات التاريخيين وإلى الاسترزاق من فئات أغنياء لبنان وبلاد الثروة. وأثبت لبنان مرة أخرى أنه عبقرى وعظيم فى تضحياته أمام الغزاة المحاربين، أيا كانوا، وأنه فشل فى أن يقلب تلك التضحيات إلى دروس وعبر يستفيد منها الآخرون.
يوم السابع من حزيران لم يخضْ لبنان سباقا انتخابيا. لقد خاض ما أراد السفلة البغاة أن يكون الفصل الأخير فى أقذر حرب نفسية وأخلاقية دفعوه إليها دفعا. لبنان وقع فى الفخ ولكن البغاة يخطئون إذ يظنون أن الانتخابات كانت الفصل الأخير فى حربهم المجنونة التى أشعلوها. فلبنان ليس مسرحا تتوقف الحياة فى أرجائه عندما يسدل ستاره. لبنان أثبت منذ استقلاله أنه فضاء عاصف ملىء بدفء الحياة وعنفوانها، وأنه لن يهدأ حتى يلد رحمه من سيقطع كل رءوس التنين مرة واحدة، وإنه إن شاء الله لقادر على ذلك.